رجع مضطراً من كراتشي إلى بغداد بقيت أنا والشيخ أمجد رحمة الله عليه وحدنا. فتصوّروا اثنين كان أمهرَهما وأخبرَهما بشؤون الحياة أنا الذي لا خبرة لي فيها ولا أملك من المهارة شيئاً.
قلت إن الصواف كان ثالثنا في العدد ولكنه كان أوّلنا في العمل، فهو المحرّك لهذا المؤتمر الذي لم أحضر مؤتمراً غيره في عمري؛ هو الذي أعدّ له وله -بعد الله- أكبر الفضل فيه. وهو الرجل الاجتماعي الذي يسمّي كل من يلقاه باسمه ويسائله عن خبره وخبر أهله وأصحابه، والشيخ أمجد كان ينسى من لقيه بالأمس! ولقد دوّنت بعض ما رأيت من أخباره العجيبة بإذنه وبموافقته، فلما جئت أكتب الآن هذه الذكريات وجدت أني صرت مثله، وصحّ فيّ أنا ما رويته عنه هو!
وكان أشقّ ما مرّ علينا أنا والشيخ أمجد بعد رجوع الصواف جهلنا لسان الإنكليز. ولغةُ التخاطب حيثما زرنا هي الإنكليزية، وهي لغة عرجاء مقطوعة النسب، تأتي في الترتيب والمنزلة خامسة بين لغات الأمم، ليس فيها قواعد مُحكَمة ولا ضوابط مطّردة، ليست مثل العربية في شرَف نسبها ومتانة سببها (السبب: الحبل) وثبات أصولها وضبط موازينها وحُسن اشتقاقها. العربية هي اللغة الأولى التي لم يعرف تاريخ اللغات مولدها لأن مولدها أقدم من مولد التاريخ، ولم يدرك طفولتها لأنه ما رآها إلاّ شابّة مكتملة الشباب.
هي في الدرجة الأولى، أما الدرجة الثانية والثالثة فإنها شاغرة ما احتلّتها لغة من اللغات. وفي الدرجة الرابعة الفرنسية والألمانية معاً. ولكن الإنكليز بجدّهم ونشاطهم وسعة حيلتهم،