للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بل الكلام على معناه. لقد أراد الشاعر ثناء ومدحاً، فكان هجاء وقدحاً. وهل أسوأ من أن يُقدِم المرء على أمر بلا نظر إلى مناقبه ومعايبه ولا فِكر في عواقبه؟ ولكنه -على ذلك- وصف لي أنا! إن أكثر ما فعلته في حياتي كان بقرار مفاجئ؛ أُقدِم على الأمر بلا تفكير ظاهر، وإن كانت الفكرة تدخل في عقلي الباطن كما تدخل المعلومات في المِحساب (الكمبيوتر) فيشتغل بها وصاحبها منصرف عنها حتى يعطي جوابها. من ذلك أنني كنت سنة ١٩٢٩ في مصر أدرس في دار العلوم وأحرّر في «الزهراء» وأكتب في «الزهراء» و «الفتح»، وكانت الزهراء من المجلاّت الأدبية الأولى في مصر، وكانت الفتح المجلّة الإسلامية الوحيدة التي تشبه الجريدة اليومية في ذيوعها وانتشارها.

وكنت أشارك في عمل المطبعة السلفية. كان طريقي واضحاً وغايتي من سيري ظاهرة، هي أن أُتِمّ الدراسة في دار العلوم وأقيم في مصر وأستمرّ في مثل عمل خالي. فخطر على بالي يوماً بلدي دمشق، وهاجني الشوق إليها وإلى أمي وإخوتي وأهلي وأصحابي فيها، واسودّت الدنيا في مصر في عيني كأني منها في ليل مظلم، وكأن صورة دمشق هي النجم الذي يلمع لي من بعيد. فتركت دار العلوم، وفارقت خالي على كُره منه وعلى دهشة مِمّن حولي، وكان جواز سفري حاضراً فركبت القطار من محطّة باب الحديد في المساء فأصبحت في حيفا.

ومن فرحي بالعودة لم أنَم. وكيف أنام وأنا مسافر في الدرجة الثالثة ... لأنه ليس في القطار درجة رابعة أرخص منها؟ أمضيت ليلى على مقاعد من الخشب لا يطمئنّ إليها الجنب ولا يستريح

<<  <  ج: ص:  >  >>