للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الكُبرى. والمرء لا يشعر بالاطمئنان والأمان إلاّ في بيته. ولا أعجب مثل عجبي مِن الذين يَدْعون المرأة إلى الخروج من بيتها، فتجول في الشوارع أو تعمل في المصانع أو تخوض المعارك والمعامع. يقولون لنا محتجّين علينا: هل تريدون للمرأة السجن في دارها؟

ما أجهلكم وما أضأل بالحياة معرفتكم حين تسمّون البيت سجناً! لقد طالما نزلت في رحلاتي الكثيرة بلاداً لم أجد فيها فندقاً آوي إليه أو نُزُلاً أبيت فيه، فشعرت أن البلد كلّه -على سعته- هو السجن إن لم يكن لي فيه دار، وأن الدار، إن كانت داري، هي البلد.

لقد عرف الإنكليز هذه الحقيقة فنقلوا بيوتهم إلى هذه الصحراء، فأقاموها فيها أو أقاموا فيها مثلها حتى لا يحسّوا الغربة عن منازلهم.

ومن الصور التي بقيَت في ذهني إلى الآن أن البدوي الذي رأى السيارة أول مرة فهرب منها وحسب أن الجنّ تسيّرها، والذي كان يجزع من الرادّ (الراديو) الذي تغنّي فيه العفاريت ويرتجف قلبه هلعاً من المحرّك (الموتور) الذي تديره يد مارد لا يُرى، صار يسوق اليوم السيارة التي كان يهرب منها ويُصلِحها هو إن فسدت، ويفكّك أجزاء الرادّ ويجمّعها، ويحرّك (الموتور) ويعرف كيف يدور. عرف الحقيقة فبطل السحر، ورأى الغربيَّ مثلَه فلم يعُد يخشاه ولا يجبن أمامه.

وكنّا نمرّ على مخافر الجيش العربي الأردني. وهم يعيشون في هذه الصحراء بما ورثوه من أخلاق الصحراء، ومن أخلاقها

<<  <  ج: ص:  >  >>