للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصبر والجلَد والاحتمال والصراحة والبعد عن النفاق. ولقد مررنا بأحد المخافر فكلّفونا أن نحمل صرّة صغيرة وقربة فيها ماء. قلنا: لمن هذه؟ قالوا: للولد دهّام. قلنا: وأين هو؟ قالوا: جِدّام (أي قدام). فسرنا ثلاثين كيلاً (كيلومتراً) حتى وجدناه وحده في خيمة قائمة في الصحراء يحرس الحدود، وإلى جانبه على مرمى حجر منه خيمة مثلها تتّصل بها خيمات. وإذا في الصرّة قليل من التمر وفي القربة شيء من الماء، وإذا هو يعيش بهذا التمر وهذا الماء يومه كلّه.

يا أيها القُرّاء، هذه أخلاق الصحراء، فثقوا بأنكم لا تزالون أقوياء ما دمتم متمسّكين بها، تجمعون إلى فضائلها فضيلةَ العلم والمعرفة بأسرار الفكر، فما ضَعُفَ العرب إلاّ حينما فقدوا أخلاق الصحراء.

ولقد وقع مثل ذلك لغيرهم. هذا جيش هاني بعل (هانيبال) القرطاجي (القرطاجنّي) الفينيقي الذي وضع رأسه في رأس روما أيام قوّتها وعظمتها، والذي حاربها فانتصف منها، والذي صنع ما لم يصنعه قبله أحد حين صعد جبال الألب بجنوده ودوابّه وأثقاله فانقضّ عليها من علٍ انقضاضاً. لقد قلّده في ذلك بعد دهر من الزمان نابليون حين صنع مثله، فهبط على النمساويين فظفر ذلك الظفر المؤزّر. فلما استقرّ جنود هاني بعل في إيطاليا وذاقوا نعيم الحضارة سَرَت إليهم رخاوتها ومشى إليهم ضعفها، وأضاعوا أخلاقهم الأولى فغُلبوا على أمرهم.

وقريب من ذلك ما كان سيقع لجنود ابن تاشفين لو أنّهم

<<  <  ج: ص:  >  >>