للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

زرع وفيها بساتين. ولقد حدّثني مدير الناحية عن أماني الحكومة فيها وقال لي: إنك ستراها بعد عشرين سنة أخرى مدينة هي جنّة الصحراء، وستمرّ بها وستكتب عنها. فقلت له: ولكن هل يُقدَّر لي أن أعيش حتى أراها؟ وما أصنع برؤيتها والكتابة عنها وأنا يومئذ شيخ على أبواب السبعين هَمُّه -إن عقل- الاستعداد للقاء ربه والعمل لآخرته؟

هذا ما قلته وكتبته في تلك السنة، وأنا أكتب هذه السطور الآن لا بعد عشرين سنة كما قال المدير، بل بعد ثلاثين، وأنا اليوم لست على أبواب السبعين ولكنني على عتبة الثمانين، فهل عقلت حتى أجعل هَمّي كله الاستعداد للقاء ربي والعمل لآخرتي؟ رَبِّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي، اللهمّ رُدّني إلى صراطك المستقيم واختم لي بالحسنى.

وعدنا نسير وليس مع سيارتنا سيارة أخرى، فهي تضرب وحدها في ظلمات الليل وفي مهامه البادية، ولكننا بحمد الله في أمان.

حتى إذا قارب السحر لمحنا في الأفق مصابيح الرّمادي (ولعلّها هي الأنبار)، ثم وضحَت، ثم ابيضّت حواشي الأفق بالأضواء الساطعة لمشروع مجلس الإعمار الذي كان قائماً يومئذ هنالك. ودخلنا شوارع الرمادي تحت صوب من المطر والريح تعصف فتصيب الوجه والأطراف بمثل لذع السياط، وإذا نحن بفتيان وشُبّان ينبعثون من سواد الليل، وأكثرهم بثياب النوم قد وضعوا المعاطف عليها، هجروا فُرُشهم وعافوا دفء بيوتهم

<<  <  ج: ص:  >  >>