للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مذكّراتهم من مصادر التأريخ لهذه الأحداث (بعد ضرب بعضها ببعضٍ وتمحيص ما ورد فيها، لأن كل خبّاز يجرّ النار إلى قرصه وكل راوٍ لقصة يكبّر دوره فيها ويصغّر أو يمحو دور غيره). ولست من هؤلاء، وإن كنت قد شاركت -من فوق المنبر، أو من وراء المذياع، أو من بين سطور الصحف والكتب- في كثير من الأحداث في بلدي. شاركت فيها ولم أكن من صانعيها ولا من قاطفي أثمارها. وإني طول عمري أقرب إلى العزلة، أعيش بين كتبي وقلة من إخواني، ذهب جلّهم إلى رحمة الله.

وقد يقرأ امرؤٌ ما كتبت في الحادث العظيم أو يسمع ما قلت فيه، فيحسب أني أنا مدبّر الأمر وأني مديره، لا يعلم أني جئت من بيتي فدخلت من الباب الخلفي إلى المنبر، ثم نزلت من المنبر فخرجت من الباب الخلفي إلى بيتي، وإن كانت لي مواقف حوّلت مسار الحوادث وأقامَت وأقعدَت وأثارت وحمّست، لا يزال يذكرها كثير من أهل بلدي.

عفواً فأنا لا أمدح نفسي، وأنا أعلم أن الحديث عن النفس ثقيل على السمع، وكلمة «أنا» ليست من الكلمات المستساغات، ولكن ماذا أصنع وأنا أدوّن ذكريات موضوعها «أنا»، فإن لم أتكلم عن نفسي في سرد ذكرياتي فعمّن تريدون أن أتكلم؟ ولكن لكم عليّ عهداً أنا موفٍ به إن شاء الله، هو ألاّ أقول إلاّ الحقّ وألاّ أذكر مما صنعت إلاّ ما يشهد كل مَن «عاصره» أنني صنعته.

وبيان آخر: الجندي حين يمشي في مهمة عسكرية يمضي إلى غايته قُدُماً، لا يعرج على شيء ولا يلتفت إليه، ولكن السائح يسير متمهلاً ينظر يَمْنةً ويَسْرةً، فإن رأى منظراً عجيباً وقف عليه،

<<  <  ج: ص:  >  >>