للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الماء حتى قارب الأرض، ثم حاذاها، ثم صار أعلى منها بمتر، لا يمسكه إلاّ أكياس الرمل التي رُصفت على الشطّ. لا يحمي بغدادَ إلاّ هذه الأكياس، فإذا وقف الإنسان من ورائها رأى وجه الماء يحاذي صدره، يموج كأنه أسد هائج يمسكه قيدٌ ضعيف، فإن نفذ الماء من مكان واحد غرقَت بغداد كلها.

وكانت ليلة سفرنا ليلة لا تُنسى (١): جمع كل امرئ أطفاله والغالي من متاعه واستعدّ للهرب. يستوي في ذلك الغنيّ والفقير، لأن دجلة إن غضبَت لا تفرّق بين الكوخ وبين القصر.

وفي الساعة الرابعة من تلك الليلة كان موعد سفرنا. وفي الرابعة تماماً، لا قبل دقيقة ولا بعد دقيقة، حطّت الطائرة الضخمة (طائرة «ك. ل. م.» الهولندية) على أرض المطار، وشرعَت تأخذ البنزين، فصُبّ فيها أكثر من مئة وخمسين صفيحة. ولم تكن مستودعاتها فارغة بل كان فيها نقص، فملؤوها بهذا الذي صبّوه فيها.

ولم أحسّ بها وهي تقوم، ولم أعلم بأنها طارت حتى نظرت من تحتي فرأيت بغداد والنهر الفيّاض يحيط بها، يلمع كأنه ثعبان ضخم قد التفّ على فريسته. وابتعدنا حتى غابت بغداد عن عيوننا ولكن صورتها لا تزال في قلوبنا، نحاذر عليها الغرق ونرجو لها السلامة. ولكن السلامة لم تتمّ وكانت الفاجعة بعد ذلك بيومين، سمعنا بها ونحن في السفارة العراقية في كراتشي.


(١) انظر مقالة «من بغداد إلى جاكرتا» في كتاب «صور من الشرق: في أندونيسيا» (مجاهد).

<<  <  ج: ص:  >  >>