الصحراء التي لازمَتنا من دمشق إلى كراتشي، فكنّا حيثما طرنا وجدناها تحتنا، فكلّ بلاد العرب صحارى، واتصلَت إلى ما حول كراتشي. ثم اختفت الصحراء فلم نعُد نجد من كلكتّا إلى آخر جزر أندونيسيا إلاّ أرضاً مخضرّة، تغطيها مزارع الأرز وغابات المطّاط والنارجيل والموز ومنابت الشاي.
كما أنني لم أجد في أوربّا -لمّا زرتها- إلاّ أرضاً مخضرّة كلّها أشجار ونباتات، وجبالها تلبس جلباباً من الغابات. فكأن الصحراء نطاق يلفّ الكرة الأرضية من خصرها من باكستان وإيران إلى جزيرة العرب إلى شمالي إفريقيا، وأحسبها تمتدّ (وإن لم تكن متصلة) إلى صحراء نيفادا وراء البحر. وأحسب (والله أعلم) أن الله لمّا قسم الخيرات جعل خير هذه الصحارى في بطنها، نفطاً، ذهباً أسود، كما جعل الخير فيما سِواها على كتفَيها وعلى رأسها، ورداً وزهراً، وماء جارياً وثمراً طيّباً دانياً.
فلما قاربنا مدينة كراتشي بدت لنا على الجانبَين مغانٍ ودارات أنيقة (أي فيلات) متناثرة. وكان أول ما عجبت منه أن السائق كان يسير بنا على يسار الطريق، فحسبته نائماً أو سكران ونبهت مَن معي إلى ذلك، فعجبوا من عجبي، وإذا هي طريقة الإنكليز: يخالفون الناس في كلّ شيء؛ إن مشَت سيارات الناس على يمين الطريق مشوا هم على شماله، وإن قاس الناس بالمتر قاسوا بالياردة، وإن وزنوا بالكيلو وزنوا بالليبرة والرطل، ولا يكتفون بهذه المخالفة حتى يفرضوها على ثلث أهل الأرض، ولا يقول لهم أحد: ماذا تفعلون؟ فإذا قسنا نحن بالذراع أو كِلْنا بالمُدّ أو وزنّا بالرطل قامت علينا القيامة، ووُصِمنا بكلّ وصمة سوء واتُّهمنا بأننا خصوم المدنية