للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

محطّة مصر بسنة واحدة. أمّا الرائي فكانت هذه هي المرّة الأولى التي أتكلّم فيها منه. فتحيّرت ماذا أصنع: هل أكتب الحديث فأقرؤه قراءة، وأقيم الصحيفة بيني وبين الناس أستر بها وجهي فلا يرونني، فأكون كمن يتكلم من وراء جدار؟ وأقبح شيء للمتكلم من الرائي أن يقرأ في ورقة يحجب بها وجهه عن الناس.

أم أصنع كما يصنع كثيرون، وهو أن أكتب الكلمة وأن أحفظها؟ وأنا أعلم أني لو حاولت ذلك لما استطعته ولَما قدرت عليه. ولا تعجبوا، فكثير من الخطباء كانوا يصنعون ذلك، ومنهم الخطيب المفوّهَ المشهود له بالبيان وبطلاقة اللسان مكرم عبيد، الزعيم الوفدي القبطي. سمعته مرّة في مصر يخطب خطبة مسجَّعة تنتهي كل جملة فيها براء ممدودة، وقد مضى فيها، فدخل بعض كبار رجال الوفد، فأعاد ما كان قد قاله بحروفه. ولا يكون ذلك إلاّ لمن أَعَدّ الخطبة وحفظها.

قلت لكم إني حرت كيف أتكلّم في الرائي، ولم يكن حولي مَن له تجرِبة سابقة فيه فأستأنسُ بتجرِبته، ولم يكن لي به عهد سابق فأسترشد بعهدي السابق. ثم رأيت أن أتصوّر إخواناً لي جالسين أمامي وأني أحدّثهم كما أحدّث إخواني في المجالس.

وكانت هذه الأضواء القوية التي تعشي العيون موجّهة إلى عينَيّ تؤذيني وتضايقني، لا سيما وأنا لم أكن قد ألفتها وتعوّدتُها، فحاولت أن أصرف بصري عنها ما استطعت وأن أتكلّم.

ألقيت كلمة لم أكن هيّأتها بألفاظها ولكن أعددت في ذهني معانيها. وأكثر ما يضايقني اليوم في أحاديثي في الرائي الوقت

<<  <  ج: ص:  >  >>