لم أستطع أن أختفي منكم وأتوارى عنكم، وأنتم بشر مثلي ... وإذا كان العقل البشري المخلوق استطاع أن يكشف هذه الخفايا لكم أنتم حتى إنكم لترون كلّ شعرة في رأسي وتسمعون كل رجفة في صوتي، فكيف تتوارون من الله وتغلقون أبوابكم وتأتون المعاصي، وتحسبون أن الله لا يراكم؟
أُهدِيَ إليّ شريط مسجّل لما ذهبت لألقي محاضراتي في الكويت منذ خمس سنين (أي سنة ١٩٥٦). وكنت قد تركته لأنه لم يكن عندي يومئذ آلة تسجيل، فاستعرتها أمس من صديق لي ووضعت الشريط فيها وأدرتُه، فسمعت الكلام الذي كنت قلته يومئذ. أفليس ذلك عجيباً؟ لو قيل لأكبر عالِم من علماء الطبيعة قبل مئة سنة إننا نستطيع أن نستبقي صوتَ المغنّي في أغنيته والخطيب في خطبته، ثم نعيد سماعه متى شئنا ولو مات صاحبه، لجُنّ العالِم أو لحسبَنا نحن المجانين. لمّا خطب غامبتا (فيما أذكر) في رثاء لاشو وصف مرافعاته العظيمة وقال: لو كان من الممكن أن نحفظها لتسمعها الأجيال الآتية ليعرفوا سرّ بلاغته وأسباب عظمته. ولكن هيهات ... إن ذلك مستحيل!
لقد سمعت في هذا الشريط لحنة وقعت مني ظننت أني نسيتها وأن الناس نسوها، فإذا أنا أسمعها الآن بعد خمس سنين، وربما سُمعت بعد مئة سنة! سجّلها هذا الشريط وهو شريط مخلوق وسُمعت في هذه الدنيا، فكيف يا إخوان، كيف بشريط الملكَين الذي يسجّل عليكم كل همسة وكل كلمة، ولا يضيع من ذلك شيء؟ أحصاه الله ونسيتموه.