للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذي لا حياة فيه (أي الرائي) يتكلّم. فهل الذي جعل هذه الجمادات تتكلّم بأفصح لسان يعجز عن إنطاق اليد والرجل يوم القيامة؟

أنا لا أريد أن أجعل هذا الحديث وعظاً فيثقل على نفوسكم، والوعظ ثقيل. الله سَمّاه بذلك حين قال: {إنّا سَنُلقي عليكَ قَولاً ثَقيلاً}، ثقيل لأنه يصرفك عن بعض لذّات نفسك ومطالب هواك. وكل أمر نافع في الدنيا ثقيل؛ كلام الطبيب الذي يدعوك إلى الدواء المُرّ والحمية عن الطعام المشتهى ثقيل، والانصراف إلى الدرس قُبَيل الامتحان وترك الفِلْم المعروض في الرائي والقصّة الدائرة في المجلس ثقيل، وكل أمر فيه جِدّ ثقيل لأن النفوس تميل إلى السهل دون الصعب، والانطلاق دون التقيد، وتحبّ الحرّية.

وإن كانت الحرّية المطلقة لا تكون إلاّ للمجانين: المجنون هو الذي يعمل كل ما يخطر على باله، يبسط فراشه في الشارع فينام بين السيارات، ويأخذ ما يريد من مال الغنيّ وما يشتهي من الثمرات من غير أن يدفع الثمن، ويريد النجاح في الامتحان من غير أن يجدّ ويدأب. الجنون هو الحرّية المطلقة، أمّا العاقل فإن عقله يقيّده. أوَليس ««العقال» في اللغة هو القيد؟ و «الحِكْمة»، أليست من حَكَمة الدابة (١)؟ والحضارة، أليست قيداً تقف فيه الحقوق عندما تصطدم بالواجبات، وتنتهي فيه حرّيتك في أرضك حين تبدأ حرّية جارك في استعمال أرضه؟


(١) أي أن كلمة الحِكْمة مشتقَّة في اللغة من «الحَكَمَة»، وهي الحديدة التي تكون في فم الفرس. وقد يُطلق اسم «اللِّجام» عليها دون السُّيور التي تُشَدّ بها، وقد يكون اللجام هو هذه الحديدة وما يتصل بها من سُيور (مجاهد).

<<  <  ج: ص:  >  >>