جوانب الحقل صفاً من الدَّوح (الأشجار الكبار) يقوم كطلائع الجيش، ومن بعده أشجار الغابات تتّابعُ صفوفها، فإن أنت تغلغلت ببصرك فيها أحسست كأنك تنظر إلى الماضي المجهول من وراء الأطلال.
وكانت نافذة القطار كلوحة السينما، ففي كل لحظة منظر جديد لا يشبه الأول، منها مناظر تنقلك إلى الهند فكأنك فيها، ومناظر فيها النارجيل كأنه النخيل، فهي تحملك إلى البصرة، إلى طريق أبي الخصيب التي عدّها ياقوت إحدى متنزَّهات الدنيا الأربعة يوم كانت تُدعى الأُبُلّة، أو إلى بغداد عند الصليخ، ومناظر تجد نفسك إذ تراها في الشام، في العين الخضراء تارة وتارة في زحلة وتارة في صوفر أو بلودان.
ثم توسّط بنا القطار «جرادان»، فلما جاوزناها ودخلنا في منطقة الجبال بدت لنا مشاهدُ إن قستَ بها ما كنا فيه من قبلُ فقد قستَ تلال الرمال بذُرى بلودان! ولتلال الرمال سحرها وجمالها، ولكن بلودان هي بلودان. وكنا نسير أحياناً في واد ضيّق كأنه وادي بردى في ضيقه، ثم يتّسع حتى يكون أرحب من وادي صوفر-حمّانا؛ ترى من تحتك جبالاً وأودية لا يُحصيها العدّ، كل جبل بلون وكل وادٍ على صورة، والأنهار تتلاحق نازلة من الذُّرى هادرة متكسّرة، يتدحرج ماؤها على أطراف الصخور هابطاً إلى قرارات الأودية. ولقد عددتُ في ساعة واحدة وأنا في القطار سبعة وعشرين نهراً، ثم مللت العدّ.
وكان القطار الكهربائي يقطع في الساعة أكثر من ستين كيلاً، وقد قطعنا ثلاثمئة كيل وما انقطع العمران أبداً؛ فالقرى متّصلات،