لا تعلم أين تنتهي القرية وأين تبدأ جارتها (١). والبيوت كلها كبيوت الخشب التي يلعب بها الأولاد: سقوف مائلة من القرميد الملوّن الزاهي على عمد من نوع من الخيزران يُدعى المانجو، وهو في جاوة في كل مكان، والجدران من الحصير الملوّن أو الخشب الرقيق المنقوش. بيوت أنيقة حلوة لا تكلّف إلاّ قليلاً. وما عجب أن يتصل في جاوة العمران، وهي وباكستان الشرقية (بنغلاديش) أزحم بلاد الله بالسكان، كان فيها يوم زرتُها ثلاثة وخمسون مليوناً.
وكنا في ضيافة الحكومة الأندونيسية وهي التي أعدّت لنا هذه الرحلة، وكان معنا مرافقان يتكلّمان العربية كأهلها، واحد من وزارة الشؤون الدينية، عالِم فاضل أمين صادق، هو الأستاذ صالح السعيدي، والآخر من وزارة الخارجية، ليس صالحاً ولا سعيداً، رأينا الكثير من شرّه وضرّه، وتعلّمت منه أن الكذب والاحتيال بضاعة موجودة دائماً وأن الرجل الواحد ربما أساء بفعله إلى بلد بكامله.
قضينا على الطريق ساعات، وكنا قد خرجنا بلا طعام فزقزقَت عصافير الجوع في بطوننا. والجَمال في الطبيعة وفي الإنسان مهما بلغ رواؤه وبهاؤه ومهما اشتدّ سحره وفتونه يملأ العين مسرّة والقلب بهجة، ولكنه لا يملأ المعدة الخالية الخاوية طعاماً. ولو أن المجنون وليلاه أو أن روميو وجولييت اجتمعا في أزهى الرياض في خلوة غاب عنها الرقيب ونأى العاذل ولم يأكلا، لكفرا بالحبّ ولعنا الغرام، ولآمنا بأن الرغيف الواحد أنفع لهما
(١) ثم رأيت مثل ذلك في بلجيكا، من بروكسل إلى لييج.