هذه الدار ووقفا عليها رَيعَ أموالهما، وفاضت عليهما العطايا والتبرّعات. ولمّا زرت الدار سنة ١٩٥٤ (١٣٧٣هـ) اطّلعتُ على دفاترها فوجدتُهما قد ربّيا إلى تلك السنة مئتين وخمسة وثلاثين ولداً، وكان عندهما لما زرتها ستة وأربعون ولداً، من كل أمّة وجنس ومن كل لون ولسان، يربّيانهم جميعاً على دين الإسلام وعلى حبّ الوطن وعلى الخلق والفضيلة، فنشأ عندهم محامون وأطباء وعلماء وصنّاع وتجّار، وكلهم بقي يتردّد على الدار ويرى في هذا المرأة أماً له وفي هذا الرجل أباً.
لقد حُرما ولداً أو ولدين فاتخذا مئات من الأولاد، واتخذا مع ذلك الثواب في الآخرة والمجد في الدنيا، وعلوّ المنزلة وبقاء الذكر. لقد صبرا على ما لا يصبر عليه أحد. وأنا لم أستطع أن أكمل الدورة في غرف هذه الدار إلاّ بصعوبة؛ لقد أحسستُ أن أعصابي قد شُدّت وتوتّرت من بكاء الأطفال وضجيج الأولاد، وسددتُ أنفي وغضضت بصري مرّات لئلاّ أشمّ أو أرى ما يؤذي، وهما يصبران على ذلك كله ويعيشان في هذا البيت مع هؤلاء الأولاد. إن الواحد منّا يكون في بيته خمسة أطفال أو ستة من دمه ولحمه، فلا يطيق القعود معهم ويهرب منهم. فقدّروا مبلغ ما يكابد هذان الإنسانان الكريمان.
ولقد سألتهما عن مبلغ وفاء هؤلاء لهما، ففهمت أن منهم قليلاً أنكر الفضل وجحد المعروف، ولكن ذلك لا يزيد على ثلاثة في المئة (ولا عجب، فإن من الناس من يبلغ به اللؤم أن ينكر فضل أمه التي حملته وسط أحشائها وأرضعته من لبن ثديَيها)، والباقون كانوا لهما أبرَّ من أولاد الأصلاب. وسألتهما