هل تظنون أن هذا الموقف نقص احترام الطلاّب لي أو تقديرهم إياي؟ لا؛ بل أؤكد لكم أنهم زادوني تقديراً وأنهم استفادوا منه درساً لعلّه أكبر من الدروس التي تُستفاد من الكتب.
وممّا وقع لي أنني كنت في أواخر الأربعينيات من هذا القرن الميلادي أدرّس -مع اشتغالي بالقضاء- في ثانوية البنات الأولى في دمشق، فكلّفت الطالبات في درس الإنشاء الذي يَدْعونه الآن «التعبير» الكتابة في موضوع يخترنه بأنفسهن لا أفرضه عليهن. وكانت عندي بنت أحسبها شركسية الأصل، صارت الآن كاتبة معروفة في سوريا اسمها نادية خوست، فقالت: أتسمح أن أكتب عنك؟ قلت: نعم. فقالت بمكر ظاهر: ولو كتبت عنك ما لا يُرضيك؟ قلت: اكتبي ما شئت، لكن التزمي الصدق وحدود الأدب.
فكتبت قطعة لا تزال عندي بخطها، وقد مرّ عليها الآن أكثر من ثلث قرن، تصفني فيها وصفاً يُضحِك عليّ كل من قرأه، تسخر مني وتهزأ بزيّي وشكلي وحركاتي، ولكن القطعة مكتوبة كتابة جيدة. فماذا صنعت بها؟ أعطيتُها الدرجة العالية على أسلوبها لأنه كان في الحقّ أسلوباً أدبياً ممتازاً، وأحلتُها على لجنة التأديب في المدرسة. فاحتجّت، فقلت لها: إنك تحسنين الكتابة، لذلك أعطيتك العلامة الكاملة كما يُعطى الذي يصيب الهدف في مباراة الرماية، لكن مَن يحسن الرماية لا يجوز له أن يرمي الأبرياء وأن يعتدي على الناس.
ولمّا أوقعوا عليها العقوبة عفوت عنها. وما كان في نفسي شيء منها لأنني من تلك الأيام، بل من أطول منها، قد تعوّدت