المكان مظلماً وأنا داخل إليه من الشارع المشرق، فلم أرَ شيئاً، فأمسكتُ من الخوف بيد جدي حتى ألفَت عيناي الظلمة، فرأيت غرفة واسعة جداً نصفها عليه دكة واطية من ألواح الخشب وتحتها فراغ وسخ، كما يكون في كثير من بيوت البلد في تلك الأيام، وهذا الفراغ تملؤه أمم من الحشرات والهوام، يقعد عليه صِبية قد اصطفّوا صفوفاً بأيديهم «الصبرة»(أي كتاب التهجية) وإن كانوا أكبر حملوا جزء عمّ، وهم يهتزّون مع كل كلمة ولهم صخب يُصِمّ الآذان، وأمام هذه الدكّة عشرات من الأحذية والقباقيب يركب بعضها بعضاً، وفي وسط الصفوف شيخ على كرسيّ عالٍ أمامه عِصيّ، عصا قصيرة وعصا طويلة وعصا أطول منها، فمن رآه قصر في الهزّ أو وقف عن القراءة أو عن الضجيج خفقه بالعصا القصيرة إن كان قريباً منه، أو بالمتوسطة إن كان وسط القاعة، وبالطويلة إن كان في آخرها.
فلما رأى الشيخ جدي، وكان مهيباً موقَّراً، نهض إليه فاستقبله وأشار إليه ليجلس، فبقي جدي واقفاً وكلّمه وهو يشير إليّ، ثم تركني وحدي مشدوهاً وذهب.
لقد كتبت في وصف هذا الموقف كثيراً وحدّثت به بالإذاعة كثيراً وجعلته مدار قصص كتبتها، ولم أوفِّه حقّه، ولم أستطع أن أعبّر فيما كتبت وما حدّثت عن مبلغ ما أحسست به يومئذ من الذعر والألم. مرّ عليه الآن ثلاثة أرباع القرن ولا أزال كلما ذكرته أذكر ذلك الرعب والخوف والذعر، وأشياء أخرى أفظع ممّا ذكرت لم أكن أعرف لها اسماً ولا أجد لها اليوم وصفاً.
كان هذا الكتّاب بداية عهدي بالمدرسة. فهل تنتظرون مني