للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(وهو اليوم طبيب في مستشفى الملك فهد في جدة) دخل وهو محمرّ العين سائل الدمع على الخدّين ينشج نشيجاً مؤلماً، فظننت أنْ قد أصابه شيء ووثبت أسأله: ما لك؟ هل وقعت؟ فهزّ رأسه. قلت: هل ضربوك؟ فهزّ رأسه. قلت: ما لك؟ فقال بصوت مختنق بالبكاء تقطّعه الزفرات، قال: إدّو، إدّو (أي جدّو)! قلت: نعم؟ قال: لوح ... قلت: لوح؟ لوح شُكَلاطة؟ قال: لوح دسِهْ أمان.

فلم أفهم. فجاءت خالته الصغيرة يمان (وهي اليوم أم لأربعة أولاد) تترجم عنه، قالت بلسانها الناقص: بدّو لوح دسة مع أمان. قلت للمدرسة مع أمان؟ فأشرق وجهه وسكت، وقال: لوح دسة أمان. قلت: وتبكي من أجل المدرسة؟ أقعد هنا أحسن بلا مدرسة. فلما سمع ذلك صرخ من كلمتي وعاد يبكي ويعول، فهدّأته ووعدته حتى سكت.

وجعلت أعجب منه إذ يبكي شوقاً إلى المدرسة، وأذكر كيف كنا نبكي نحن خوفاً منها، وكرهاً لها.

وكرّت بي الذكرى إلى أول خطب من خطوب الدهر نزل بي؛ لست أعني الحرب العامّة، فلم تكن الحرب قد أُعلنت وما كنت يومئذ لأفقه لها معنى أو أبالي بها، ولكن أعني ما هو أشدّ وأفظع، أشدّ عليّ أنا، ذلك هو أول دخولي المدرسة. لقد كان يوماً أسود لا تُمحى من نفسي ذكراه، ولا أزال إلى اليوم كلما ذكرته أتصور روعه وشدّته. لقد كرّه إليّ المدرسة وترك في نفسي من بغضها ذخيرة لا تنفد، ولقد صرت من بعدُ معلّماً في الابتدائية ومدرساً في الثانوية وأستاذاً في الجامعة، وما ذهب من نفسي

<<  <  ج: ص:  >  >>