الضيق بالمدرسة والفرح بالخلاص منها، والأنس بيوم الخميس واستثقال يوم السبت، وما ذهبت إلى المدرسة أو إلى الجامعة مرّة إلاّ تمنيت أن أجدها مغلَقة أو أجد الطلاّب قد انصرفوا منها والدروس معطلة فيها!
(إلى أن قلت): لقد كان التلاميذ يبقون في هذا الكتّاب الذي أخذني جدي إليه من بُعَيد مطلع الشمس إلى قُبَيل الغروب، قاعدين لا يتكلمون ولا يستريحون ولا يلعبون، ولا يكفّون عن القراءة والاهتزاز، يحملون أكلهم معهم فيأكلون وهم قاعدون، وإذا عطشوا قاموا إلى البِركة فوضعوا أفواههم في مائها الملوّث وعبّوا مثلما تعبّ الجمال، وإذا كانت لهم حاجة ذهبوا إلى مراحيض المسجد.
والكتّاب مغلَق دائماً مظلم دائماً، لا يُفتَح له باب ولا نافذة ولا يُجدَّد له هواء، ولا يمضي على الولد فيه يوم لا تصيبه من الشيخ بليّة: خفقة بالعصا على رأسه من بعيد أو ضربات على رجلَيه بالفلق من قريب، أو «مونولوج» كامل من أقذع الهجاء يقرع أذنيه.
ولقد كان من المناظر المألوفة كل صباح منظر الولد العاصي (العَصْيان) وأهله يجرّونه، والمارّة وأولاد الطريق يعاونونهم عليه، وهو يتمسّك بكل شيء يجده ويلتبط بالأرض ويتمرّغ بالوحل، وبكاؤه يقرح عينيه وصياحه يجرح حنجرته، والضربات تنزل على رأسه، يُساق كأنه مُجرم عاتٍ، يرى نفسه مظلوماً ويرى الناس كلهم عليه حتى أبوَيه. فتصوروا أثر ذلك في نفسه في مقبل أيامه.