للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد تقدّم اليومَ العلم وارتقى الفكر، وقطعت البشريّة في طريق الحضارة في هذه السنين الخمسين، منذ أكملتُ دراستي إلى الآن، أكثر ممّا قطعَت في الخمسمئة سنة التي سبقَتها، في الفكر، في فروع العلم، في الفيزياء، في الطب، في علوم الفضاء ... ولكن ما درسناه (أو ما درسته أنا إذا قصرتُ الكلام على نفسي) في الثانوية التي خرجت منها سنة ١٣٤٧هـ، ما درسته لا أزال أحفظ أكثره، لا في علوم الدين والعربية وحدهما، بل في علوم الطبيعة وفي الجغرافيا وفي علوم كنا ندرسها فأعرض الناس عنها: المحاسبة (وكنا نسمّيها مسك الدفاتر) والموسيقى العربية بمقاماتها والإفرنجية بسلّمها وعلاماتها وشاراتها، والطوبوغرافيا، وتحسين الخطّ بأنواعه: الرقعة والفارسيّ والثلُث والنسخي والكوفي، وعلوم أخرى، لماذا تُركت وأُهملت ولطالما أفادت ونفعَت؟

لا أقول -كما يقول الشيوخ من أمثالي- أن زماننا كان خيراً من هذا الزمان ولا أن أهله كانوا أحسن من أهله، ولا أن العلم في أيامنا أرقى من العلم في هذه الأيام ولا أن المدرّسين كانوا في الجملة أكثر علماً وأوسع اطّلاعاً ... بل أقول إن الشواغل التي ازدحمَت على الطالب اليوم والمُلهيات التي حفّت به، من الرائي والسينما وكرة القدم وأنواع الفنون، وأمثال هذا ممّا لم يكن على عهدنا منه شيء أو كان منه شيء لا يكاد يُعَدّ شيئاً، هذا الذي جعلنا أحرص على دروسنا وأوعى لها.

علّمت -كما قلت لكم- من ستين سنة، وشهدت مسيرة القافلة وعرفت طريقها، ورأيت ما فيه من هضبات تعلو بسالكها

<<  <  ج: ص:  >  >>