للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

طريق العمر، وقفتُ عليها شاباً في مطلع الشباب وكهلاً في وسط الكهولة وشيخاً في أوائل الشيخوخة، ثم حِيل بيني وبينها فلم أعُد أراها، وذهب أصحابها إلاّ أفراداً منهم، منهم مَن سمّيتُ، ومنه آخرون ما ذهبَت ذكراهم في قلبي ولكن غابت أسماؤهم الآن عن خاطري. ولي في بغداد وفي بيروت وفي القاهرة مواطن مثلها لذكرياتي، لو جمعتُ ذهني لكتبت عن كل واحد منها فصولاً لا فصلاً واحداً، ومنها ما أستطيع أن أكتب عنه كتاباً. ولكن ما الجدوى وقد بقي المكان وذهب السكان؟ ولئن ذهبت إلى الشام أو إلى العراق أو إلى مصر فمَن سألقى من هؤلاء؟ لو ذهبت إلى الشام التي نِيطَت عليّ فيها تمائمي وفيها نشأت وعلى ثراها درجت، والتي أهلها أهلي، هل أجد الشام التي فارقتها؟ هيهات! فلا الدنيا هي الدنيا ولا الناس هم الناس، وسأبدو غريباً في وطني. وما أقسى أن يكون المرء غريباً في وطنه!

ولطالما لقيتُ في هذه المجالس أفاضل الناس، قلت لهم وسمعت منهم وأخذت منهم وأعطيتهم، وكان فيها منفعة أو كان فيها متعة لي ولهم، ثم قطع الدهر (أو قطعت أنا لا الدهر) ما بيني وبين الناس، فلا أزور اليوم ولا أُزار، وانتهت بي الحال إلى عزلة كاملة، ربما ضقت بها حيناً ولم أعُد أحتملها ولكن لا أُطيق الخلاص منها، كحمار السانية (التي يسمّونها في مصر «الساقية») يُربط بذراعها فيدور مضطراً معها، فإذا أطلقتَه عاد يدور طليقاً كما كان يدور مربوطاً.

وعفوكم إذا ضربت المثل بالحمار، فإنما شبّهت به نفسي وأنا حرّ في نفسي!

<<  <  ج: ص:  >  >>