للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكنت -مع ذلك- أقرأ كل يوم مئتين أو ثلاثمئة صفحة، وأنا مستمرّ على ذلك من يوم تعلّمت القراءة وأنا صغير، أي من نحو سبعين سنة إلاّ قليلاً؛ أصرف فضل وقتي كله في القراءة، لأنني ما كنت ألعب مع الأولاد في الشارع ولا أذهب مع الشباب إلى ملهى، ولست امرءاً اجتماعياً يُضيع وقته في استقبال القادمين ووداع المسافرين وتهنئة الفرِحين وتعزية المصابين، ولا أجيب دعوة، لا سيما إن كانت إلى طعام. وأستغفر الله من ذلك إن كان فيه مخالفة لِما هو أكمل في نظر الإسلام، ولا أدعو أحداً إلى أن يفعل مثلي. ولا أستقبل زائراً إلاّ عن موعد سابق ولا أزور أحداً إلاّ في الحالات النادرة، فحفظت بذلك وقتي وأرحت نفسي.

تقولون: كيف قدرت على هذا كله وكيف اتسع له وقتك؟ والجواب أنني لم أكن أقسم نفسي ولكن أقسم وقتي، وهذا ما يُسمّى عند الفقهاء «المُهايَأة». هل سمعتم بالمُهايأة؟ إذا كان للدار مالكان لا تتّسع لهما ولا يمكن أن تُقسَّم بينهما فإنهما يقسمان الوقت، فيستعملها كل واحد منهما شهراً أو سنة، ويستعملها الآخر مثل ذلك.

وأنا حين أكون في المحكمة أوليها انتباهي كله ولا أفكر في الجريدة ولا في المدرسة، وإن كتبت أكتب للجريدة أُبعِد ذهني عن المحكمة، وحين أكون في المدرسة لا أفكّر في غير دروس المدرسة. ثم إن ذلك كان على عهد الشباب. «روائحُ الجنّةِ في الشبابِ» كما قال أبو العتاهية، ولو أن الشبّان من قراء هذا الفصل أنفقوا قواهم وصرفوا وقتهم في الجِدّ وفي المنتج النافع لصنعوا أكثر ممّا صنعت.

<<  <  ج: ص:  >  >>