لم يستطع أن يقول شيئاً، وأراد حفظاً لمكانته واتّباعاً لعادته أن يُملي على كاتب الضبط شيئاً، فقلت له: لا، إن ضبط المحاكمة ملك للقاضي لا يدوَّن فيه إلاّ ما يمليه هو أو يأذن بتدوينه، فإن كان عندك شيء فقله شفاهاً أو اكتبه كتابة.
وواضح أن هذا كله في غير القرار النهائي، لأن القرار النهائي الذي يفصل في الدعوى لا يستطيع أحد من الخصوم أن يردّ عليه بل يرفع الدعوى إلى محكمة أعلى.
ومحامٍ آخر هو «ف. م.»، وكان سليط اللسان غير مهذّب اللفظ، وكان أحد اثنين في مجلس النوّاب أقامهما الحزب الوطني ليردّا بسفاهتهما وبذاءة منطقهما وصفاقة وجهيهما الهجوم عليه. جاء يقف أمامي، وشرع يجرّب أسلوبه معي يريد أن يُخيفني، وفتح الحاضرون آذانهم ينتظرون نتائج هذه المعركة بينه وبيني. فقلت في نفسي: إن كان سفيهاً فأنا أحفظ نصف أهاجي الشعراء، فإن كانت مباراة بالسباب فأنا أقدَر عليها منه، وإن كانت مناقشة قانونية فأنا أعرَف بالقانون منه، وإن كان يعتزّ بأنصاره من شباب الحزب فأنا عندي من بقايا الشباب الذين كانوا يعملون معي لمّا كنت رئيس اللجنة العليا للطلاب من يأكلهم بلا ملح، ولي بحمد الله من الشعبية ومن نصرة كبار المشايخ والعلماء ما يقوّيني عليه. وإن قابلته في المكان المنقطع كنت أقوى منه جسداً واستطعت أن أدفع أذاه عني، فعلامَ أدعه يجرب فيّ سفاهته؟ وكان لي معه موقف لم أخالف به القانون ولم أخرج به عن حدود الأدب، ولكن أرَيتُه كيف يكون تأديب السفهاء وصغّرتُ إليه نفسه حتى صار هو يخجل بها، ولم يعُد بعدها إلى شيء ممّا يُنكِره عليه غيري.