المحكمة ورفعتُ الجلسة. فجاءني بغير الوجه الذي كان يلقاني به في المحكمة، جاء خاضعاً متذلّلاً يطلب أن أخلّصه من هذه الورطة لأن موكّله حمّله التبعة، فعرضتُ عليه أن يُرضي المدّعية وأن تؤدّى إليها حقوقها وأن يضمن لها ألاّ يعود إلى إيذائها. وكان ذلك، وخرج الخصمان متّفقَين. وهذا ممّا يُحمَد الله عليه.
* * *
وكنت أحرص على النظام وعلى ظهور هيبة القضاء، ولا أدع أحداً مهما علَت منزلته أن يقطع النظام، فاتفق مرّة أن اثنين من أكبر المحامين، كلاهما اسمه سعيد وكلاهما علَم من الأعلام في ديار الشام، الأول كان أستاذاً لنا في كلية الحقوق وكان مرّة وزيراً، وهو أقدر محام مدني في بلادنا ولولا حبسة في لسانه لَما قام له أحد، والثاني صار وزيراً مرات كثيرة وصار رئيساً للوزراء، وكان حسن الهيئة حلو اللسان، ولكنه على استعداد ليمشي مع كل إنسان أو ليمشي ضدّ أي إنسان! فكان من مزاياه أنه يترك الوزارة أو تتركه هي، فيعود في اليوم التالي إلى مكانه في المحكمة محامياً من المحامين كأنه لم يكن أمس وزيراً أو رئيساً للوزراء.
رأيتهما يتهامسان ويضحكان، فقرعتُ خشب القوس أمامي وقلت لهما: هل نسيتما القراءة؟ فتعجّبا، فقلت: هل كتبنا على باب العمارة «القصر العدلي» أم «قهوة الكمال»؟
وتجرّأ مرّة محام فلسطيني أصله من الشام اسمه «ب. س.» وقال كلاماً لا يليق، فأمرتُه بالسكوت، فزاد في صفاقته وفي جرأته وفي استطالته على المحكمة، فرفعت الجلسة وأمرته