البلد، ويجعلها وليمة للقاضي ولمن معه. فأبطلتُ هذه العادة، وكنت إذا أردت الخروج من المدينة وقفتُ السيارة عند أحد الأفران فأخذت رغيفاً سخناً وقلت لمن معي: لن نأكل شيئاً حتى نرجع ولن نحضر دعوة ولن ندخل داراً لطعام، فمَن خاف منكم الجوع فليصنع مثلي. وآكل الرغيف، ثم أقف على أحد السبل المبثوثة في أرجاء البلد (من أيام الوالي التركي ناظم باشا رحمه الله، يأتي ماؤها من نبع «الفيجة» بارداً ناعشاً كأنه الماء المثلَّج، أو كأنه الثلج المموَّه، ولم أجد مثل ذلك في مدينة من المدن التي مشيت إليها في شرقي الأرض وغربيها) فأشرب منه بكفّي.
وإذا كان بعض المحامين يريد حضور الوليمة فإنني أدَعه وأعود بالسيارة. أما الأجرة المقرَّرة قانوناً على هذا الكشف فكانت أربع ليرات سورية في البلد وعشراً خارجها، والعَشر تعدل بأسعار هذه الأيام ثلاثة ريالات ونصف الريال؛ هذا ما يأخذه القاضي عندما يخرج للكشف.
ولقد وقعَت لي في هذه الكشوف حوادث طريفة فيها تسلية للقارئ، منها أننا ذهبنا يوماً إلى كشف على مسكن في طرف دمشق، وكان معي في السيارة كاتب المحكمة والزوجة وزوجها. فلما وصلنا جاء عسكري قريب للزوجة فأراد أن يتدخّل فمنعته، وكان للعسكري أيام الفرنسيين بعض الرهبة في قلوب الناس، فلما ابتعدنا راجعين قال الزوج: أنا سكتُّ عنه إكراماً لكَ (أي لي أنا) ولولاك لَمصعتُ رقبته. فقلت للسائق: قف. فوقف، وقلت للزوج: أنا لم أرَ في عمري رجلاً «يَمْصع» رقبة آخر وأحب أن أرى هذا المشهد، ولا يضرّني أن أنتظر، فسأدعوه لك حتى