للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجاءت مرة امرأة تدّعي على رجل أنه زوجها وأبو ولدها وتطلب منه نفقتها ونفقة ابنه منها، فسألتُه فأنكر الدعوى وادّعى بأنه لا يعرفها وأنه لم يرَها إلاّ الآن. فسألتها عن بيّنتها على دعواها، فظهر أن الزواج قد عُقد خارج المحكمة، زوّجها منه أبوها وشهد شاهدان على زواجها، وكان زواجاً شرعياً كاملاً ولكن لم تُكتب به وثيقة، ومات أحد الشاهدين فلا تستطيع إثبات دعواها بالشهادة.

وشممتُ رائحة الصدق في كل كلمة قالتها، وللصدق رائحة لا تُشَمّ بالأنوف ولكن تُحَسّ بالقلوب. فحاولتُ أن أنبّه ضميره فما انتبه، وأن أرقّق قلبه فما رقّ، وأن أخوّفه اللهَ وعقابَه فما خاف. ولم يبقَ إلاّ أن أحلّفه إن طلبت اليمين، وبدا لي من حاله أنه سيُقدِم على حلف اليمين الكاذبة من غير أن تهتزّ عضلة واحدة في جسده. فماذا أعمل؟ أرى الحقّ يضيع أمامي ولا أملك لصاحبته شيئاً؟ وكنت في مثل هذه الحالة ألجأ بقلبي إلى الله أستمدّ منه العون، ففعلتُ، وسرعان ما جاء عون الله، وكان مشهد من أعجب المشاهد التي رأتها ساحات القضاء.

ذلك أننا سمعنا من خارج المحكمة صوت امرأة كبيرة تزجر صبياً، والصبي يرفع صوته لا يبالي بها كأنه يطلب منها شيئاً وهي لا تُعطيه ما يطلب، فلما ضايقها صاحت به بصوت سمعه كل من في المحكمة: اذهب عني، هل أنا مكلَّفة بك؟ هذا أبوك وهذه أمك فاذهب إليهما قبّحك الله وقبّحهما. ولطمَته على وجهه، فعلا صوته ونادى من خلال نشيجه ودموعه: بابا تيتا ضربتني ... واقتحم الباب يدفع الناس بيديه الصغيرتين ينادي: بابا، ماما، وينك يا بابا؟

<<  <  ج: ص:  >  >>