للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يكن قد سُكن ولا شُقّت فيه هذه الشوارع ولا أُنشئَت فيه هذه البيوت.

وجاءني بعد الظهر في الفندق شابّ يسلّم عليّ يرحّب بي، يحمل إليّ ثلاث طاقات من الورد وثلاثة دواوين من الشعر كانت أجمل وأحفل بالشذى والعطر من طاقات الزهر، دواوين له هو مطبوعة طبعاً أنيقاً جداً على ورق صقيل جداً، فتصفّحتها أقرأ ما فيها، فوجدت من النظرة الأولى شعراً فيه طبع وفيه جمال، تجري في أبياته روح وطنية في حس شعريّ مرهف. وكان اسمه حسن البحيري، وعجبتُ كيف لم أسمع به من قبل. ولازمَنا ما يفارقنا، يُرينا كل ربع ساعة لوناً جديداً من كرم خلقه وطيب نفسه وأصالة أدبه. وأخذني أزوره في بيته، وأنا قلما أزور ناساً لا أعرفهم في بيوتهم، فرأيت داراً فقيرة ولكنها نظيفة، وأمّاً له فيها ما له غيرها، عامية ولكنها ذكية، وودّعتُه وأنا لا أدري كيف أكافئ كرمه ولطفه بمثله. ثم قدم دمشق فأقام فيها واشتغل بالإذاعة فكان من أحسن مذيعيها، ثم صار خبير العربية فيها، ينظر في الأحاديث التي تُلقى وفي الأخبار فيصحّح خطأها وينبّه أصحابها، وكانت الإذاعة جديدة. ثم سافرتُ سفرات باعدَت ما بيني وبينه، ثم علمت (وإن لم أتوثّق) أنه قد مات رحمة الله عليه.

* * *

وبلغنا مصر، وخرجنا من محطة باب الحديد فأخذتُ سيارة، وكانت سيارات الأجرة يومئذ في مصر كثيرة وكانت رخيصة، وكانت الشوارع نظيفة، وذهبت أؤمّ بيت خالي. وكان

<<  <  ج: ص:  >  >>