للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقف واستوقف صحبَه فوقفوا مطيَّهم معه، وبكى واستبكى مَن معه، فلا البكاء أفاد ولا الوقوف نفع، ولا أيام الوصال عادت ولا الحبيب رجع.

إني لأفكّر: كم من المنازل كان لي فصار لغيري، وكان يعرفني وصار يُنكِرني؟ وفي كل منزل منها شعبة من قلبي وبقايا من حبي وقطعة من حياتي وأطراف من ذكرياتي: في الشام وفي مصر وفي العراق وفي بيروت، وفي كل بلدة دخلتها أو أقمت فيها من أقصى الجنوب الشرقي من آسيا إلى أقصى الشمال من هولندا. فما لها اليوم صارت كلها غريبة عني وصرت غريباً عنها؟ حتى الدار التي عمرتها بيدي على أرض اشتريتها بمالي في سفح قاسيون في بلدي، وشهدت نموَّها يوماً بعد يوم وقيامَها حجراً فوق حجر، حتى هذه الدار صارت لغيري. وإن أعطاني الله -والحمد له دوماً- داراً خيراً منها، فحرمني العباد من رؤيتها ومن سُكناها:

كمْ منزلٍ في الأرضِ يألَفُهُ الفتى ... وحنينُهُ -أبداً- لأوّلِ منزلِ

وأول منزل لي دار صغيرة في أحد الأحياء الفقيرة في دمشق. على أن في البيت معنى لا أحسبه خطر على بال أبي تمام الذي قاله، معنى أعلى وأسمى وأصدق مما أراده الشاعر؛ هو أن أول منزل لنا معشر البشر المنزلُ الذي كنا فيه فأخرجَنا منه عدوٌّ لنا، قال لنا الله اتخذوه عدواً فاتخذناه صديقاً، وقال لنا اعصوه فأطعناه، هذا العدوّ هو إبليس وأول منزل هو الجنّة.

فالعاقل مَن صدَق العزم على الرجعة إليها، وأعدّ لهذه الرجعة عدّتها وهيّأ لها وسائلها وسلك سبيلها. وما سبيلها؟

<<  <  ج: ص:  >  >>