وسكت وسكتنا، وجعلنا نتبادل الأنظار كالقطط، حتى مضت الساعة التاسعة وذهب موعد الجلسة.
* * *
وكنت يوماً أستقبل في بيتي جماعة من الأصدقاء، فجاء أحد أصحابنا وجاء معه بولد صغير. وأنا لا أكره شيئاً كما أكره من يزورني ويأتيني بولده معه، ولكني تجلّدت وقلت لنفسي: إنه ضيف ولا بد من الاحتمال.
وما كاد يستقرّ في المجلس حتى شرع يتحدث عن ولده وعن ذكائه ونوادره وعن كماله، والحاضرون يبتسمون مجاملة ويتمنون أن يحسّ فيختصر هذا الحديث الثقيل، وهو يقول لولده: بابا، قم اخطب لهم خطبة. فتدلّل الولد وتمنّع وقال: ما بدّي. قال: قُم، عيب. وما زال معه في شدّ ودفع حتى استجاب وخطب خطبة كانت أزعج لسامعيها من شربة زيت خروع لشاربها، ولكنهم اضطُروا أن يكشّروا عن أنيابهم ويقولوا مجاملة: ما شاء الله. وحسبوا أن المحنة قد انتهت، ولكن الرجل عاد فقال: وهو حافظ غيرها كمان (أيضاً).
وانتظر أن يستبشروا بهذا الخبر ويطيروا سروراً بهذه البشارة، فلما رآهم سكتوا وأحجموا لم يسكت هو ولم يُحجِم، وقال للولد: اخطب بابا الخطبة الثانية.
ومن خطبة إلى خطبة، حتى خطب عشر خطب شعر الحاضرون كأنها عشر مطارق تنزل على رؤوسهم، وطلعت منها أرواحهم، وهو يضحك مسروراً كأنه جاء بمعجزة، ثم قال: وهو