يغني كمان. غنِّ -بابا- أغنيّة (الأغنيّة بتشديد الياء). قلت في نفسي: أعوذ بالله، خرجنا من الخطب فجاءت الأغاني! وغنّى أغنية ثم أتبعها بأخرى، فقلت: يكفي، إنه قد تعب. قال: لا (ومطّها)، إنه لا يتعب الله يسلّمه ويرضى عليه. من حقّ تعبت يابابا؟ قال: لا، ووثب ينطّ بالغرفة. قال أبوه: يعرف يلعب كمان.
وخرّب في لعبه كثيراً ممّا كان في الغرفة من التحف. وجئنا بالشاي فمدّ يده ليأخذ الفنجان، فقلت: إنه حار. قال: لا. ورفع رجله بحذائه الملوث فوضعها فوق المقعد، وأخذ الفنجان وقرّبه من فمه، فأحس حرارته فأفلته من يده فانكبّ على المقعد الجديد. وتوقعت أن يعتذر أبوه عن إفساده وجه المقعد، وإذا به لا يهتمّ بوجهه ولا قفاه، لقد اهتمّ بولده وقال له: لا ترتعب، ما صار شيء. هل احترقت يدك؟ ونظر فيها وابتسم وقال: سليمة والحمد لله.
وانتقل هو وابنه إلى مقعد آخر، وجعل الولد يكلّمه في أذنه فقال الأب: كأس ماء من فضلك، الولد عطشان. فقمت وأتيته بها. فشرب وأراق الماء على المقعد الثاني، وبعد لحظة قال أبوه: ممكن من فضلك يخرج إلى الحمام؟ قلت: قم. وأخذته بيده فصرخ صرخة أرعبَتني أنا، وحسبت أن قد أصابه أذى، وسألت: ما له؟ قال أبوه: إنه لا يخرج إلاّ معي. فقلنا: خذوا طريقاً وهاتوا طريقاً، ووقفنا حتى وصل الموكب الهمايوني إلى بيت الخلاء!
ولا أريد أن أصف لكم بقية المشهد، فتصوروا آخره من معرفة أوله.