مَقُوداً لا قائداً، وكان معي من يرتّب لي أمري ومن يُزيح لي علّتي (كما كان يقول الأولون) ويُعنى بي ويهيّئ لي كل ما أحتاج إليه، وأنا اليوم مسؤول عن نفسي وعن زوجتي، أمشي إلى بلد لا أعرفه وليس في فمي لسان أخاطب به أهله. والفرنسية التي كنت أتقن نحوها وصرفها والتي أخذتُ بحظّ من أدبها واطّلاع على أخبار أدبائها (ولا أزال أستطيع أن أقرأ بعض ما كتبوا) تركت درسها من سنة ١٩٢٩، ثم إني من الأصل أقرؤها ولا أنطق بها، ذلك أن الفرنسيين الذين كانوا يعلّموننا لسانهم كما يعلّمونه أبناءهم في باريس، المناهج هي المناهج والكتب هي الكتب، هؤلاء الفرنسيون دفعونا بحماقتهم عن النطق بلسانهم. ثم إن الذي يحبّ أن ينطق بلغة عليه أن يفكّر بها، لا أن يفكّر بالعربية مثلاً ثم يترجم فكره إليها.
أضرب لذلك مثلاً: أردت في بروكسل أن أركب سيارة أجرة، ففكّرت فيما أقوله له لو كنت في بلدي؛ أقول: خذني إلى محلّ كذا. فلما ترجمت له كلمة خذني ضحك وتعجّب مني، فقلت أكلمه بالفصيح فأقول كما كان يقول أجدادنا الأولون «احملني إلى كذا»، فلما سمع ترجمة احملني ازداد الخبيث كركرة وضحكاً، ذلك أنهم يقولون للسائق «قُدْني» (conduisezmoi)، لا يقولون خذني ولا يقولون احملني.
* * *
المسافر المُقدِم عادة على البلد المجهول تتنازعه عاطفتان، هذه تشدّه من هنا وتلك تسحبه من هناك: تطلُّع إلى الجديد، وكل جديد له لذّة، ورهبة من الظلام، وكل ظلام مقترن بالخشية. وقد