بالمحتضَر، نعانقه، نقبّله، نضمّه إلينا، نتمسّك به لئلاّ يذهب من أيدينا، وننسى مَن هو أقرب إليه منا ومَن يفعل به وبنا ما يريد ما لا ما نريد. ننظر إليه ولا نملك له شيئاً، والروح تخرج ونحن نرى ولا نستطيع عملاً:{فلولا إنْ كُنتُمْ غيرَ مَدِينينَ، تَرْجِعونَها إنْ كُنتُمْ صادقينَ}، هل سمعتم يامعشر الملحدين الذين يكفرون بربّ العالَمين ولا يؤمنون بيوم الدين؟ إذا كنتم غير مدينين ترجعونها! هل تستطيعون؟ من يستطيع أن يردّ الروحَ إلى المُحتضَر إذا خرجت منه الروح؟ هل تُرجعها قوة الروس والأمريكان؟ هل أرجعَتها من قبلُ سطوة الفرس والرومان وفرعون وهامان، وكل متكبر يحسب من جهله أنه يشارك الله في ملكه؟ إنه لا يقدر أن يمدّ في عمره هو ولا في عمر من يحب لحظة واحدة من الزمان.
* * *
لقد أدرتَ أمامي -يا أخي الأستاذ بلخير- شريطاً مطولاً، فيه نعيم وفيه بؤس وفيه مسرة وفيه كدر، تكرّ مناظره متلاحقة مسرعة حتى لا أستطيع أن أدقّق النظر فيها. إذا تركتَ لي السنوات الخمس الأولى من عمري التي لم أكن أدرك فيها تماماً ما هو حولي بقي ثلاثة أرباع القرن، خمس وسبعون سنة. كم يوماً فيها؟ وكم تقلّبَ عليّ من حالات النفس كل يوم؟ إنه عالَم، عالَم كامل ياسيدي ظننت أنه طُوي إلى الأبد، فإذا مقالتك تمسك بطرفه فتنشره أمامي. لا أحد يستطيع أن يُعيد الماضي حياً كما كان، ولكن أديباً شاعراً كالأستاذ بلخير يستطيع أن يُقيم صورتَه أمام عينيك حتى كأنك تراها رؤية عيان.