ماضٍ لا أحصي ما كان فيه من مسرّات وأحزان، وعلوّ وانخفاض، ونشاط وخمول ... إنها حياة طويلة، وكل حياة فيها كل هؤلاء. أدركت عهد العثمانيين والسلطان محمد رشاد، والاتحاديين وجمال باشا، والحرب العامّة الأولى، ولا تزال مشاهد آثارها في دمشق ماثلة أمام عيني، مرّت هذه الأدوار كلها فأعدتَها لي كما يعود شريط السينما حين يكرّ مسرعاً.
كانت لي أسرة هي عالَمي الصغير، فما زالت الأيام تأخذ منها واحداً وتضيف واحداً حتى (اللهم عفوك، ما هي الأيام ولكن أنت الآخذ وأنت المعطي وأنت مالك الملك)، حتى لم يبقَ من أسرتي الأولى إلاّ أنا. ركبتُ القطار من المحطة الأولى، وكلما وقف نزل ناسٌ من الركّاب وصعد ركّاب، حتى لم يبقَ من الذين كانوا معي لمّا ركبت إلاّ أنا. إني لأتخيل أحياناً ماذا تكون حالي لو أن هذا التبدّل وقع في ساعة واحدة أو يوم واحد: أُمسي وأنا بين أبي وأمي وجدي وجدّتي وعمّتي، وأُصبِح وقد ذهب هؤلاء جميعاً وجاءت أسرة من البنات والأحفاد وأولاد البنات والأحفاد، أسرة فيها أكثر من أربعين إنساناً جديداً لا أعرفهم!
لو بِتّ ودمشق كالتي تفضّلتَ فوصفت جانباً منها لمّا زرتَها قبل خمسين سنة، أيام العربات التي تجرّها الخيل المطهّمات، أيام النضال والمظاهرات، أيام المشايخ والعلماء والأدباء ... لو بتُّ فيها وأصبحتُ في دمشق التي نراها الآن، أكنتَ تظنني أبقى في عقلي الكامل؟ هل يبقى لي ذهن يعي وقلم يكتب، أم أُحمَل حملاً إلى شهار عند الطائف؟