ورأينا الغزلان تمرّ من حولنا تنظر بعيونها إلينا، تلك العيون التي فتنت شعراء العرب حتى شبّهوا بأصحابها الغيد الحسان. وما زال العرب يتتبّعون ما أودع الله من الخصائص والمزايا في غرائز الحيوان فيضربون بها الأمثال: بوفاء الكلب، وصبر الحمار، وإقدام الأسد، واحتمال الجمل، وجمال الغزال، ومكر الثعلب.
ولمّا جاء عليُّبن الجهم بغداد قادماً من بيدائه باقياً على جفائه، مدح الخليفة فجمع فيه من هذه الصفات التي كان يراها مزايا، حتى لم يكَد يدع حيواناً إلاّ شبهه به (كما زعم الرواة)، فأنكر عليه أهل المجلس، ولكن الخليفة رأى فيه جوهراً غالياً ينقصه الصقل، فأمر بإسكانه في أجمل أحياء بغداد يوم كانت بغداد أجمل وأجلّ بلاد الدنيا. فما مضت أشهر حتى غدا عليه بقصيدته المشهورة:
أعَدْنَ ليَ الشّوقَ القديمَ ولم أكنْ ... سَلَوْتُ ولكنْ زِدنَ جَمراً على جَمري
ولمّا كنت أدرّس الأدب العربي في بغداد سنة ١٩٣٦ سألني طالب عن معنى هذا البيت، لأن الرصافة (وهي الجانب الشرقي من بغداد) متصلة بالجسر، فأين يكون مجال الغيد الحسان بينهما؟ فتردّدت وكدت أقول لا أدري، ثم فُتح عليّ فعرفت المراد، وهو أنها تُرى بينهما، فهي تارة في الرصافة وتارة على الجسر، كما