للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تقول عن الرجل الصالح المعتزل الدنيا: هو بين بيته ومسجده.

ومن طريف الذكريات أني كنت أدرّس مرة في ثانوية البنات في دمشق (ولم أكن مصيباً في قبول التدريس فيها، وأستغفر الله الآن من دخولي إليها، لأنه لا يجوز في شرع الله ولا في طبع عباده من العرب أن يتولى رجل تدريس البنات البالغات، وأكثرهن سافرات كاشفات، فكيف بأن تدرّس بنتٌ فتياناً؟) وكنت أشرح قصيدة الحُطيئة، فمرّ ذكر «بَغيض» فسخرَت طالبة من اسمه واستقبحته. فسألتها: ما اسمك؟ قالت: مها. قلت: أفلا أنكرتِ اسمك والمهاة هي البقرة؟

فوضعَت رأسها بين كفّيها وانكبّت على المقعد تبكي، وأطالت البكاء. قلت: ما الذي يُبكيك؟ قالت: أبكي لأنك قلت إني بقرة. قلت: إنها البقرة الوحشية، ثم إن أهلك -وهم أعرف بك وأحنى عليك- هم الذين سمّوك بهذا الاسم. فازدادت بكاء، قلت: لك أن تبكي ما شئتِ ولكن لا تُخرجي صوتاً يعطّل علينا درسنا.

على أن المها ليس البقر بل هو نوع من الظّباء. فانظروا إلى المعنى الواحد كيف يرفعه أو يخفضه التعبير عنه، كالقائد الذي زعموا أنه رأى رؤيا فدعا بمن يعبرها له، فقال له: ستموت أسرتك كلها. فشتمه وأمر به فأُخرج من مجلسه، ودعا بآخر فقال له: أنت أطول عمراً من أسرتك كلها. فهشّ له وأكرمه.

والمعنى واحد ولكن اختلف التعبير. وصحّت كلمة الجاحظ حين قال: «إن المعاني ملقاة على قوارع الطرق، وإنما يتميز الناس

<<  <  ج: ص:  >  >>