نحن في بلدنا لا نجمع بين الطعام والكلام، فإما حفلة للأكل نُعِدّ لها طعاماً شهياً وبطناً خالياً، وإما حفلة للكلام نهيّئ لها فكراً واعياً وبياناً صافياً. ثم إني قاضٍ وأديب، هذا عملي وتلك صناعتي، لذلك أتردّد بين وقار المهنة الذي من شأنه أن أزن كل كلمة بالميزان المعلَّق في صدر المحكمة (الذي قالوا إنه ميزان العدالة) وأن أعدّ من الواحد إلى اثنَي عشر قبل أن أنطق بها، وبين الأديب الذي من شأنه البيان والإعلان، وأن يكشف عما في نفسه ويُطلِع الناس على ما في قلبه، ويُبيحهم أعمق أسراره ويقول ما يُقال عادة وما لا يُقال. فهل أستطيع أن أجمع بين الأمرين؟ وهل ترون من العدل، وأنتم حماة العدل، أن أقوم أنا فأتكلم وتقعدوا أنتم فتأكلوا، فلا ينتهي الكلام حتى نفقد الطعام؟
أنا شاميّ المولد مصري الأصل، مولدي في دمشق وجدّي من طنطا، فأنا دليل من آلاف الأدلة على قضية لا تحتاج إلى دليل، هي أن الشام ومصر بلد واحد. ولي في الشام أهل ولي في مصر أقرباء، ولكني لا أعرف أقربائي في مصر. ولقد بحثت عنهم مرة، لا لأزداد لمصر حباً ومن مصر قرباً، فحبي لمصر وقربي منها قد كَمُلا فلا يحتملان الزيادة، بل كنت آمل أن ألقى فيهم قريباً غنياً لا يكون له وارث، فأوفّر على الدولة عناء البحث عن وارثه وأفوز بثرائه. ثم خفت أن يكون أقربائي هنا أفلسَ مني فيرثوني هم، فأكون «كالعير الذي ذهب يطلب قرنين فرجع بلا أذنين» كما جاء في المثل.
ونشأت ياسادة على التشوّق إلى مصر والرغبة في زيارتها، فلما تحقّق الحلم جئت مصر بعد أن أمضيت على الطريق يومين