واستأذنت في المجيء حكومتين غاصبتين؛ خرجتُ من دمشق بإذن من باريس ودخلت مصر بإذن من لندن! وما لأهل باريس ولا لأهل لندن حقّ في الشام ولا في مصر حتى أستأذنهما في الخروج وفي الدخول. وكان ذلك سنة ١٩٢٨، وكنت أحمل شهادة البكالوريا، فقدّمت طلباً إلى الجامعة المصرية فلما أبطأ الجواب دخلت دار العلوم، ولم أكملها.
وكنت أتوقع من الطلاّب أن يرحبوا بي ترحيب الأخ للأخ، ولكني وجدتهم ينفرون مني نَفرة الأُلاّف من الغريب، ثم يضحكون من لهجتي ويسخرون من كلامي، ووجدت أكثرهم لا يعرفون عن الشام إلاّ أنها التي يأتي منها «قمَر الدين» في رمضان والصابون النابلسي، لذلك كان الصبيان في الحارات يضحكون مني إذا سمعوا كلامي، يقولون القولة المعروفة (وأعتذر إليكم من إيرادها): «شامي ... حامي».
ولم يكن الأدباء والعلماء بأعرف بالشام وأهله من العامة والطلاّب؛ فلقد جاءتني مرة رسالة من الأستاذ أحمد أمين لا تزال عندي بين أوراقي، عليها أي على ظرفها تحت العنوان: دمشق، فلسطين! وكانوا يخلطون بين دمشق وبغداد وبيروت ويقولون:"كلهم إخواننا العرب". وقد خبّرني صديقنا وزير العدل الآن (أي يوم ألقيت الكلمة) الأستاذ نهاد القاسم أن ضابطاً مصرياً كبيراً زاره وخبّره أنه نُقل إلى الإقليم الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة، فسأله: هل نُقلت إلى دمشق؟ قال: لا، بل إلى الإقليم الشمالي. فسأله: إلى حلب؟ قال: لا، إلى الإقليم الشمالي.