أو مكان، وهو الذي كان قبل أن يُخلق الزمان والمكان.
كنت كالعاشق الذي نأَت به الحياة عن صاحبته فهو دوماً في شوق إليها، إن لمح البرق من نحو أرضها ذكّره بها لَمَعانُ البرق، وإن لمح النجم الذي تراه هزّه إليها لَمْحُ النجم، يمدّ يديه ليعانقها ونفسُه مَشوقة إليها وبينه وبينها الآماد البِعاد، فإذا حمله رحله إليها جعل كلّما دنا منها خطوة أحسّ أنْ قد فُتح له باب ورُفع له من دونها حجاب، حتى إذا انزاحت الحُجُب واختُصرت المسافات وذاب البعد رآها عياناً ولمسها، وألقى بصره عليها، وعانقها قلبه قبل أن تعانقها يده وقبّلها فؤاده قبل أن يقبّلها فمه.
ويا أسفا! لقد فقدت بإقامتي في مكة ذلك الشعور الذي هزّ قلبي يوماً هزّة ما أظنّ أني شعرت بمثلها.
كحّلت عيني بمشهد الكعبة أول مرة سنة ١٣٥٣هـ، في رحلتنا تلك التي حدّثتكم حديثها مفصّلاً. الرحلة التي كشفنا فيها طريق السيارات من دمشق إلى مكة، والتي صرمنا فيها ثمانية وخمسين يوماً على الطريق، نعتسف البوادي، نقتحم المجهول، نغوص في الرمل، نربط الحبال بأعناقنا ونجرّ سياراتنا لنُخرِجها من تلك الرمال. صلينا الشمس التي تُلهِب قحوفَ الرؤوس وتعصر الأجسام فتُسيل منها ماءها عرقاً، ثم لا نجد من الماء ما نشربه فنعوّض به ما سال من أجسادنا.
لقد طالما ضللنا الطريق أياماً، بل ما كان أمامنا طريق نهتدي إليه أو نضلّ عنه، إنما خرجنا لنفتح هذا الطريق! قطعنا عند «خور حمار» قبل مدائن صالح بضعة أكيال فقط (كيلومترات) في نهار