للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في الحياة؛ كنت أعرف حُكم الوقوف في مُزْدَلِفة والمبيت في مِنى، ولكني لا أعرف ما مزدلفة وما منى وما موضعهما وما شكلهما وكيف الوصول إليهما. ومعرفة الاسم لا تُغني عن رؤية المسمّى أو وصفه.

أكثر الناس يعرفون أسماء الكوفة والبصرة والمِرْبَد وعُكاظ ودُومة الجَنْدَل ومرج راهط وحطّين وعين جالوت وأمثالها، عرفوا أسماءها مما درسوا من التاريخ الماضي ولكنهم لا يعرفون ما حالها في الوقت الحاضر وما مآلها. فلو أن أحد الأساتذة المطّلعين أو الطلاب الذين يُعِدّون الأطروحات (أي رسائل الشهادات العالية للماجستير والدكتوراة) يحققون مواضعها ويدرسون حالها اليوم، وينشرون وصفها وصورها ويصفون مظاهر الحياة فيها، لكان من ذلك خير كثير.

وقد عرفت أنا هذه المواضع كلها وزرتها ووقفت عليها وأقدر أن أصفها، ولكني فقدت الهمّة الدافعة إلى العمل، فأنا كسيارة قوية المحرّك فيها البنزين ولكن ليس فيها هذا الزِّناد (المارش) الذي يقدح الشرارة الأولى لتسير.

أقول إني لمّا حججت أول مرة وجدت أن ما درَسته ثم درّسته للطلاب لم يُفِدني في معرفة طريقي. وكنت أمشي من حيث يمشي الناس، أسير أين ساروا وأقف إن وقفوا وأصنع مثل ما صنعوا، لا أعرف من أين سرت ولا إلى أين أسير، وإن كنت أُفتي مَن حولي وأبين لهم أحكام الحجّ لأنني أعرف ما في الكتب، ولكني لم أعرف من قبل ما على الأرض.

<<  <  ج: ص:  >  >>