للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كأنك تراه، ذكّرني ببردى لمّا فاض مثل ذلك الفيضان سنة ١٩١٨ فملأت مياهُه مدرستَنا وصارت مقاعدنا كالزوارق طافية على وجه الماء ونحن نتعلق بها، وكان يوماً من أجمل أيام حياتي في الصغر. وكنت في آخر الدراسة الابتدائية، وأنا قد سبقت الشيخ أبا الحسن في رؤية هذه الدنيا ولكنه سبقني في بلوغ ذُرى الفضائل فيها.

أرأيتم الذي يمسك طبق الأكلة المفضلة لا يستطيع أن يدَعه، والأكل منه يُتخِمه ويملأ معدته بما لا يهضمه؟ أنا ذلك الإنسان مع كتاب الشيخ. لو استمررت أقرأ فيه وأعلّق عليه لَما انتهيت حتى أجيء بمثله (في حجمه لا في فضله وعلمه)، ولا ألخّصه لأن مَن اختصر كتاباً أو لخّصه أساء إلى مؤلّفه.

إن أعظم قصص الحب الأدبية يمكن أن تُلخَّص في كلمتين: رجل تعلّق بامرأة فاجتمع شمله بشملها أو صرفه صارف عنها، إن كانت الأولى فهي قصة بهيجة يطمئنّ القارئ إليها، وإن كانت الأخرى فهي فاجعة أو مأساة يبكي منها. بل إن أعظم ما يتلو البشر من قصص، قصة يوسف التي نزل بها جبريل الأمين على قلب سيد المرسلين، والتي هي كلام الله لا يدانيه ولا يقاربه كلام بشر، لو أردت أن تلخّصها لقلت إن يوسف ألقاه أخوته في الجبّ فضاع منهم ثم وجدوه، وحزن أبوه لمّا فقده ثم سُرّ لمّا وجده.

أليست هذه خلاصة السورة كلها؟ فما الذي يبقى منها إن لخّصتها؟ وأنا أستغفر الله أن يُفهَم مني أني أقتبس كلام الخالق بكلام المخلوق، وإنما هو مثَل ضربته للناس.

لقد كلّفني الأستاذ أبو الحسن في غرة سنة ١٣٨٥هـ وشرّفني

<<  <  ج: ص:  >  >>