قرأته، لأنني عرفت آباء الثلاثة قبل أن أعرفهم. ولو كان الموت يأتي بالدَور يُصيب الأكبر فالأكبر لكنت أنا سابق الثلاثة، ولكن لله حكمة تقف دونها أفهام الناس.
أمّا الشيخ عبد الله بن حسن فقد كان يوم قدمتُ المملكة قاضي القضاة، وكنت أزوره كل يوم في المحكمة التي كانت في شمالي الحرم ودخلَت الآن فيه لمّا وُسّع وجُدّد بناؤه، وكان صدّاعاً بالحقّ مقيماً للشرع، ورأيت منه -على ذلك- شفقة وعاطفة ورقّة قلب. كان متعبداً صالحاً، ما جئت للحرم للصلاة مدّة إقامتي القصيرة في مكة إلاّ وجدته في الصف الأول يقرأ القرآن ينتظر الصلاة. ومَن كان في انتظار الصلاة كان في صلاة. وكان يفتي على مذهب الإمام أحمد، فإذا جاء الحديث الصحيح على غير المعتمَد في المذهب أخذ بالحديث. وهذا هو الحقّ، ولقد وفّقني الله إليه بعدما لبثت دهراً من عمري حنفياً لا أعدل بمذهبي شيئاً ولا أدعه بحال، وأنا أستغفر الله الآن مما كنت عليه وأحمده على ما صرت إليه.
وأمّا الشيخ صالح التونسي فكان شيخي، لزمتُه سنين وسنين يوم كان مقيماً في دمشق، وكان مدرّساً لنا في المدرسة الجقمقية عند الباب الشمالي للجامع الأموي، وقد سبق الكلام عنه وعنها في هذه الذكريات. وكان صديق أبي، فأرسلني إليه أقرأ عليه دروساً خاصة في غرفته في المدرسة البادرائية، وهي مما بنى الأجداد من المدارس.