للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

برؤية طفل رضيع ما جنى جناية ولا ارتكب إثماً، على صدر أم ما حملت سلاحاً ولا خاضت حرباً، يُمنع الطعام والشراب عنها حتى يجفّ ثديها ويغيض في عروقها دمها، وتموت مرتين قبل الممات: مرّة من جوعها ومرة من تمزُّق قلبها حزناً على ولدها الذي يذوي ويذوب بين يديها؟ أهذا إنسان؟

ماذا كان الإنسان سيفعل لو أبصر على جانب الطريق كلبة هزيلة قد ولدت، فلما جاءت تُرضِع جِراءها من أطْبائها (أي أثدائها) لم تجد فيها لبناً، والمولود ينبح حتى أخفى الجوع صوته، والأم تتلفّت حولها ينطلق لسانها الأعجم من غير كلام، وتُلقي عيناها الحائرتان قصيدة استغاثة يسمعها ويستجيب لها كل من كان في قلبه من الإنسانية أدنى ميراث ومن كان له قلب وفي قلبه من الشعور أيسر نصيب، فجاءها رجل بقليل من الحليب تتقوّى به الأم وتعيش به الوليدة، فأقبل صبي ليس له عقل يُدرِك ولا قلب يعطف فرمى الرجل بحجر أصاب الإناء فكبّ ما كان فيه، ووقف يمنعه أن يدنو منها أو أن يسعفهما لئلاّ تفسد عليه لذّته بمنظر موتهما.

هذا والذي يراه حيوان أعجم. فكيف لا أقطع حديث ذكرياتي وأقف اليوم لأصف مشهداً ما رأيت مثله في عمري الذي طال، ولا قرأت مثله في أخبار الأولين وأساطير الماضين، وما أظن أنه وقع مثله في مغارات اللصوص وقُطّاع الطرق ولا في أوكار المجرمين؟

إنه شيء لا أعرف له في اللغة العربية اسماً يدلّ عليه، فيا ضيعة عمري في دراستها ورواية أشعارها ومعرفة أخبارها وكشف

<<  <  ج: ص:  >  >>