للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُهديها. ورأيتها تردّني خمسين سنة في طريق العمر فتحملني إلى عهد كان من أجمل عهود حياتي، تردّني إليه حين استحال أن تردّ تلك الأيام عليّ وتحملها إليّ. وسأكتب عما كان لهذه الهدية من الأثر في نفسي وما أثارت من الخواطر والذكريات.

لمّا رأيت مجموعة «الرسالة» ذكرت أن لي فيها مقالة عن الوحدة نُشرت قبل خمسين سنة كاملة، أدَع ما في أولها من كلام عن فلسفة الوحدة وأنقل هنا فقرات مما قلت فيها (١). قلت:

عجزت عن احتمال هذه الوَحدة وثَقُل عليّ الفراغ الذي أحسّه في نفسي، فخالطت الناس واستكثرت من الصحابة، فوجدت ذلك أنساً لنفسي وجمعاً لشملي، فكنت أتحدّث وأمرح وأمزح وأُضحِك وأَضحك حتى ليظنّني الرائي أسعدَ خلق الله وأطربَهم. بَيد أني لم أكن أفارق أصحابي وأنفرد بنفسي حتى يعود هذا الفراغ الرهيب وترجع هذه الوحدة الموحشة.

انغمست في الحياة لأملأ نفسي بمشاغل الحياة وأُغرق وحدتي في لُجّة المجتمع، واتصلت بالسياسة وخببت فيها ووضعت، وكتبت وخطبت، فكنت أحسّ وأنا على المنبر بأني لست منفرداً وإنما أنا مندمج في هذا الحشد الذي يصفّق لي ويهتف، ولكني لا أخرج من النديّ وينفضّ الناس من حولي وأنفرد في غرفتي حتى يعود هذا الفراغ أهول مما كان وترجع الوحدة أثقل، فكأنها ما نقصَت هناك إلاّ لتزداد هنا، كالماء تسدّ


(١) هي مقالة «الوَحدة»، نُشرت في «الرسالة» سنة ١٩٣٧، وهي في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

<<  <  ج: ص:  >  >>