للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مخرجه من الصّنبور (الحنفية) فينقطع، ولكنك لا ترفع يدك حتى يتدفق ما كان قد اجتمع فيه. فماذا يُفيدني أن أُذكر في مئة مجلس أو أن يمرّ اسمي على ألف لسان، وأن يتناقش فيّ الناس ويختصموا، إذا كنت أنا في تلك الساعة منفرداً مستوحشاً متألماً؟

(إلى أن قلت): لذلك صرت أكره أن ألتقي بالناس وصرت أنفر من المجتمعات لأني لم أجد في كل ذلك إلا اجتماعاً مزيّفاً. وجدتُني غريباً بين الناس فتركت الناس، وانصرفت إلى نفسي أكشف عالَمها وأجوب فيافيها، وأخوض بحارها وأدرس نواميسها، وجعلت من أفكاري وعواطفي أصدقاء وأعداء، وعشت بحب الأصدقاء وحرب الأعداء.

(إلى أن قلت): وسيظلّ الناس تحت أثقال العزلة المخيفة حتى يتصلوا بالله، ويفكّروا دائماً بأنه معهم وأنه يراهم ويسمعهم؛ هنالك تصير الآلام في الله لذّة، والجوع في الله شبعاً، والمرض صحّة، والموت هو الحياة السرمدية الخالدة. هنالك لا يبالي الإنسان أن لا يكون معه أحد، لأنه يكون مع الله.

* * *

ولكن هل بلغت أنا هذه المنزلة؟ ياأسفي! إني لأقرأ هذا الكلام الذي كتبته من خمسين سنة شمسية فأراه حقاً، ولكن أرى نفسي عنه بعيداً؛ أراني لا أزال أفتّش عمّن أضيع بالحديث معه عمري أو عن كتاب أو مجلة أمزّق بها حياتي، وأنا أعلم أن هذا العمر هو رأس مالي.

ولقد فسّرت سورة العصر من زمن بعيد، بعيد جداً، تفسيراً

<<  <  ج: ص:  >  >>