للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذين نسمّيهم بأهل الحضارة من أهل أوربا أو أميركا (وكان أجدادنا يدعون أوربا «أورَفّي»، بتشديد الفاء). ولست أعمّم الحكم ولكن أقول عمّن رأيت منهم وعمّا سمعت عنهم.

ولم يكن الطب في المملكة في تلك الأيام قد بلغ عُشر ما نجده عليه الآن ولا أقلّ من العُشر، ولكن المستشفى المركزي في الرياض كان عامراً بالأطباء، وكان مديره شاباً نبيلاً سامي الخلق حسن العشرة محبوباً، لا يردّ طالب إسعاف ولو لم يكن يعرفه، فكيف بهؤلاء الإخوان وفيهم مَن هو صديقه ورفيقه؟ وكان في المستشفى جناح أُعِدّ لكبار المرضى من ذوي الأقدار والمنازل، فأنزلوني فيه كرماً منهم. وكان فيه ممرّضتان يبدو أنهما ألِفتا رؤية المتمارضين من الشباب ممّن كان ينزل عندهما رغبة في لقائهما، كان همهم هذا اللقاء لا التداوي والشفاء. فما أدري كيف ضربهما العمى فلم تبصرا في رأسي ووجهي الشيب والصلع، وأصابهما الصمَم فلم تسمعا صراخي؟ وأظنّ أنهما حسبَتاني مثل أولئك الشباب ولم تدركا أني إلى حقنة مورفين (وما كان يسكّن الآلام في تلك الأيام غيره) أحوَج مني إلى معاقرة كؤوس الجمال ومطارحة أحاديث الغرام. فتلفّتَت إحداهما تقول: حضرة الأستاذ من طنطا؟ وتكركر ضاحكة: هئ هئ، من طنطا بتاعتنا؟ هئ هئ!

والمرأة إن ضحكَت غالباً قالت: «هي هي»، والرجل يقول: «ها ها»، والولد يقول: «هو هو». فصببتُ نقمتي كلها عليها، ووجّهت إليها كلاماً ما سمعَته حتى انكمشت وتضاءلت وكفّت عما كانت فيه. وجاء مدير المستشفى يزورني يسأل عن حالي مع طائفة من الإخوان الكرام وعما آمر به، فقلت له: أول ما أطلبه أن

<<  <  ج: ص:  >  >>