لم يكن في حيّ العزيزية لمّا جئتها سنة ١٣٨٤هـ إلاّ أبنية معدودة: كلية التربية، وكانت كما عرفتم بناء واحداً صغيراً، وإلى جواره بضعة مساكن، وقبله الثانوية المركزية ولا شيء غير ذلك. وكان الحيّ يُعرف بالحوض، أو «حوض البَقَر»؛ إذ كان فيه حوض يسيل إليه الماء من مجرى عين زَبيدة، فلما وسّعها الملك عبد العزيز رحمة الله عليه وضمّ إليها عيوناً أخرى سُمّيَت العزيزية، ثم صار ذلك اسماً للحيّ كله. وهو حوض قديم موقوف تشرب منه البقر والجمال والغنم.
وكنت أمرّ بالثانوية كل يوم في ذهابي إلى الكلية وفي عودتي منها، فدعَوني يوماً إلى إلقاء محاضرة فيها، فقبلت على أن تكون محاضرتي أجوبة على أسئلة الطلاب. ذلك أن أصعب شيء عليّ هو اختيار الموضوع الذي أتكلم فيه، لا لقلّة ما عندي بل لكثرته! ولا تحسبوا قولي من باب الفخر والحماسة والتفاخر بالعلم، بل هو من باب تقرير الواقع؛ فقد تعلمت القراءة وأتقنتها سنة ١٣٣٧هـ قبل سبعين سنة، ولم أكن ألعب مع الصبيان في الزقاق ولا أصاحب الأقران في الغدوات والروحات ولا أقعد في مقهى ولا أؤمّ ملهى، فكان وقتي كله للمطالعة. وكان في دارنا مكتبة كبيرة هي لأبي وكانت قبله لجدّي، فكنت أتخيّر منها الكتاب بعد الكتاب أفتحه فأنظر فيه، فإن فهمته وأعجبني موضوعه قرأته وإن لم أفهمه أعدته إلى مكانه. وكنت أقرأ كل يوم عشر ساعات أو أكثر منها ما لم أكن مسافراً أو أكن مشغولاً، وقلّما كنت أُشغَل أو أسافر. فما ظنكم بمن كان يقرأ كل يوم عشر ساعات واستمرّ على ذلك سبعين سنة؟ إنه لو كان أغبى الأغبياء لاجتمعَت عنده