الأطفال والشباب فلا تُمحى أبداً، وتكون لقلوب الكهول والشيوخ شباباً جديداً، كما كانت الفجيعة في ميسلون شيخوخة مبكّرة لهذه القلوب التي شابت من الهول قبل الأوان.
لقد نامت دمشقُ البارحةَ ملء جفونها بعدما صرّمَتْ تسعةَ آلاف وثلاثَمئة وسبعاً وتسعين ليلة (١) وهي تنام مفزَّعة الفؤاد مقسَّمة اللبّ، تخشى أن تُصيبها من الفرنسيين بادرة طيش أو نوبة لؤم تذهب بدار عامرة أو تضيع حقاً ظاهراً أو تريق دماً بريئاً. وأغفت تحلم بالمجد والحرّية، وقد مرّت عليها تلك الآلاف من الليالي لا تحلم فيها إلاّ بتهاويل الظلم والموت والخراب. وتأنس بطيوب الأحبّة من جند العرب في نجد والحجاز ومصر والعراق، وقد زهَت بهم دمشق أن قدموها ضيوفاً كراماً، بل إخواناً وأصحاب البلد.
لقد نامت دمشق البارحة وهي تودّع عهد الانتداب، عهد الجهاد والعذاب، لتستقبل عهد الحرية، عهد البناء. ونهضت دمشق تسبق الفجر الطالع تؤمّ الشوارع التي يعرض فيها جيش الحرّية، فما طلعت الشمس وفي النوافذ والشرفات وعلى ظهور العمارات، في شارع فاروق وفؤاد والجامعة السورية والسّنْجَقْدار وميدان المرجة وضفاف النهر وفوق قباب التكية السليمانية وعلى أشجار المسالك وفي كل مكان يُشرِف على الطريق، ما طلعت الشمس وفي ذلك كله شبر واحد خالٍ من رِجل إنسان قد قام
(١) من يوم الاحتلال، ٢٥ تموز (يوليو) سنة ١٩٢٠ إلى يوم الجلاء ١٧ نيسان (إبريل) سنة ١٩٤٦.