هي العمر، تفنى الليالي وتنقضي الأعمار وتخلد هذه الساعات ذكرى في قلوب البنين. وفي تاريخ الأمم أيام هي التاريخ، تمرّ السنون متحدّرة في درك الماضي مسرعة إلى هوّة النسيان، وتبقى هذه الأيام جديدة لا تبلى، دانية لا تنأى، مشرقة لا تغيب.
وللإنسانية أيام هي ركن الإنسانية، لولاها ما قام لها بنيان ولا ثبت لها وجود، أيام قد عمّت بركاتها وشملت خيراتها البشرَ جميعاً، أيام هي ينابيع الخير والحقّ والعدل في بَيداء الزمان، وهي المَفْخَرة لأمة أرادت الفَخار، وما أكثر هذه الأيام الغُرّ في تاريخنا.
تلك الأيام التي أفضلنا فيها على العالَم كله وسمونا به إلى ذُرى الحضارة: يوم الهجرة، ويوم بدر والقادسية واليرموك ونهاوند، وأيام قتيبة وابن القاسم في المشرق وعقبة وطارق في المغرب ومحمد الفاتح في الشمال، ويوم عين جالوت وحطين، واليوم الأغرّ الذي أعاد لنا يوم حطين وكان فجرَ نهار جديد للعرب، بل للمسلمين أجمعين، هو يوم الجلاء.
(إلى أن قلت): وقد زعم العُداة أننا فرحنا هذا الفرح لأننا أُعطينا ما لم نكن نحلم به، كالفقير المسكين الذي يطلب فلساً فيُمنَح ديناراً. كلاّ، إننا لم نأخذ إلاّ الأقلّ من حقّنا؛ إن الجلاء ليس عجباً وإنما العجب العُجاب أن يكون في ديار الإسلام احتلال، العجب أن لا نحكم نحن الأرضَ وقد خُلقنا من أصلاب مَن حكموها وورثنا القرآن الذي به دانت لهم الرقاب.
وزعموا أن هذا الجلاء قد أتى عفواً بلا تعب وأننا لم نُوجِف عليه بِخَيل ولا رِكاب، ولولا أنها أتت به مصلحة الإنكليز ما