للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقدتها؟ لقد سقطت مني في مسالك الحياة وفي مسارب العمر. إن الذي يسقط منه شيء يعود أدراجه يفتش عنه في الطريق الذي جاء منه، فمن لي بأن أعود لأسلك كَرّةً أخرى طريقي في الحياة؟ أعود إلى الشباب؟ إلى سنة ١٩٢٨ وما بعدها؟

ثم انقضَتْ تلكَ السُّنونُ وأهلُها ... فكأنّها وكأنّهم أحلامُ

في الحلم يغفل العقل، أيْ يغيب الرقيب، فتنطلق الأماني المحبوسة وتتكثّف وتتجسّد أمامك حتى تحسّ بها: تراها، تلمسها، تكلمها، تعيش فيها ... كل ما كنت تتمناه تراه قد جاءك من غير أن تمدّ إليه يداً أو تخطو إليه بقدم. إن كنت فقيراً تتمنّى الغِنى تدفّق عليك المال، وإن كنت عاشقاً بلغت الوصال، تشعر أنك تطير على ظهر الرياح بلا طيارة ولا جناح.

ثم يصحو النائم ويتصرّم الحلم، فإذا العالَم الذي كنت تعيش فيه ليس إلاّ صورة في فِلْم أو مشهداً في لوحة راءٍ (١) انقطع عنه التيار، فإذا اللوحة بيضاء!

إن الذي فات مات (كما تقول المسرحيات)، ويستحيل أن يرجع في الدنيا الأموات.


(١) كنت قد سمّيت الراديو من قديم «الرادّ» (اسم فاعل) لأنه يردّ علينا الصوت الذي يخرج من الإذاعة، فلما جاءنا التلفزيون أيام الوحدة كلّفوني وضع اسم له، فوجدت أن المعنى الحرفي للتلفزيون هو الرؤية من بعد، كما أن معنى تليفون الصوت من بعد والتلغراف التخطيط من بعد (وكلها من اليونانية)، فسميته «الرائي» بمعنى المرئي كقوله تعالى {في عيشةٍ راضيةٍ} أي مَرضيّة، على طريقة المجاز العقلي.

<<  <  ج: ص:  >  >>