للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تركتكم في الحلقة الماضية في محطة باب الحديد؛ بلغتها بعدما ظننت أني لن أبلغها، فقد كانت تلك السفرة أمتع وأقسى ما مرّ بي، كنت كالغريق فلما رأيت خالي ومن جاء معه لاستقبالي أحسست كأن يداً تمتد إليّ تمسكني ثم تنقذني!

وخرجت معهم وهم يسألونني عن سفري، وأنا أجيب بنصف ذهني ونصفه مشغول بتأمّل ما أرى. كنت في مثل نشوةِ الحالم، فأنا معهم بجسدي، وأنا بعيد عنهم بنفسي. كنت أعلم أن الحلم يمّحي إن تيقظ الحالم، فما لهذا الحلم العجيب يبقى معي، أحيا فيه ولست نائماً؟

لا تعجبوا؛ فإن السيّاح الذين يجوبون أقطار الأرض والذين جزعوا مشرقها ومغربها يجدون في مصر -إذا جاؤوها- ما يرغّبهم فيها ويشدّهم إليها، فكيف بشابّ على أبواب العشرين لم يرَ في عمره بلداً غير بلده دمشق؟ ودمشق على جمالها وبهائها لم يكُن فيها يومئذٍ مثل ما في مصر من الميادين والشوارع والحدائق والمتاحف، ولا كان ذلك في شيء من مدن الشام والعراق.

وأول ما أدهشني أننا خرجنا من المحطة وقد انتصف الليل أو كاد، في الساعة التي تُغلَق فيها الحوانيت في الشام وتخلو الطرق وتنام المدينة، فإذا الشوارع هنا مزدحمة بالناس، وحافلات الترام ممتلئة، والدكاكين مفتوحة ... أفلا ينام أهل مصر لا في الليل ولا في النهار؟

ووصلنا الدار في موهن من الليل (١) فزاد دهشتي أن


(١) أي في نصف الليل.

<<  <  ج: ص:  >  >>