وجدتهم يُعِدّون العشاء، ورأيت -بعدُ- أنّ هذه عادتهم كل يوم: يبقى خالي في المطبعة إلى أن يمضي ثلث الليل، والشغل دائر والمطبعة شغّالة، ثم يخرج إلى ميدان باب الخلق حيث عربات بيّاعي الفواكه التي تُدفَع باليد وعلى كل عربة مصباح من مصابيح الغاز التي تُدعى في مكة «الأتاريك»(١)، فيشتري بعض ما يجد: بلحاً أو عنباً أو تلك التي كرهت ريحها من أول يوم فما أكلتها، الجوافة. ويأخذ البياعُ ورقة يلفّها على هيئة القمع الكبير يضعها فيها، ونصعد بها إلى الدار (وكانت الدار فوق المطبعة) فنجد العشاء.
وأوينا إلى مضاجعنا عشيّة وصولي مصر وقد شاخ الليل ودنَت ساعة السحَر، ولكني لم أنَم. إن الذي تُبدَّل وسادته أو تُغيّر غرفته لا ينام، فكيف بمن ودّع حياة ألفها وعرفها في بلده وجاء يبدأ حياة في بلد آخر لم يألفها ولم يعرف عنها إلاّ أقلّ من القليل؟ وجعلت أتقلب على الفراش حتى سمعت (أو خُيّل إليّ أنّي سمعت) أذان الفجر، فقمت لأتوضأ. وتحققتُ من دخول الوقت فصلّيت وعدت أحاول النوم، وما قام للصلاة أحد مِمّن كان في الدار، وكان ذلك ثاني ما أدهشني.
وبلغ منّي النعاس بعد مشقّة السفر وطول السهر، ولكني لم أنَم إلاّ لماماً. إن من يصل ليلاً إلى البلد الجديد يبيت متطلعاً يرقب ضياء النهار ليرى ما الذي كانت تخفيه ظلمة الليل، وإن كان ليل القاهرة ما فيه من ظلام. إن شعوره كشعور من تأتيه الهدية يعرف